ليست سياسة شرعية بل تقليد ونفوذ وإلا فأين السياسة عن تزويج الصغيرة؟

التقليد منهج محدودي التفكير، وفرض النفوذ منهج ضعيفي الحجة، والتجديد منهج العظماء والمبدعين. فالتقليد منهج كسول مسالم يقتل الأمة والأيدلوجية التي قامت عليها بهدوء عبر قرون من الزمن، ومثاله القرون الوسطى لأوروبا وللعالم الإسلامي. وأما فرض النفوذ فهو منهج تعسفي ظالم يقضي على الأمة والأيدلوجية التي قامت عليها بسرعة خلال عقود من الزمن كالمعتزلة والشيوعية. وأما التجديد فهو منهج لا يقوم عادة إلا بعد تضحية وبذل، فيحيي مكامن القوة في الأمة، فيقودها إما فكريا أو عقائديا أو عاطفيا إلى تغيير أوضاعهم القائمة تغييرا جذريا ينتهي بهم إلى نجاح يتبعه نجاح كثورة الإصلاح الفرنسية وكإمبراطورية التجديد الأمريكية وكفكر عظيم المناطقة وسيد المناظرين وشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الذي كان وما زال أصل كل حركة خير وتجديد وإصلاح في الأمة الإسلامية ومن بعض حسناته الدعوة النجدية.
وعادة ما يكون التقليد والحفاظ على النفوذ هو داء حركات التجديد الذي إن لم يقتلها أصابها بالشلل. إن استحضار المنهج الدعوي والفتاوى التطبيقية لأئمة الدعوة النجدية وتطبيقها على أوضاعنا المعاصرة من غير مراعاة وتأمل للأوضاع الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية المستجدة هو ديدن كثير من أبنائها رغم أنه مناقض لجوهر هذه الدعوة المباركة التي مثلت بحق منهج الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في مراعاة الأوضاع السائدة، سواء مع قريش ومع اليهود ومع المسلمين عامة "يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة" وفي المدينة "أتريد أن يتحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه" وفي اليمن "إنك تأتي قوما حديثي عهد بإسلام". جوهر هذه الدعوة النجدية المباركة هو التصحيح، والتصحيح هو تغيير لما تعارف عليه الناس. وهي دعوة لم تغفل الأوضاع القائمة قط سواء بالتحالف مع السياسة أو بمخاطبة الناس بما تعودوا عليه، وكان ذلك مناسبا في زمن ما قبل ثورة الاتصالات، فأما الآن فما يُقال في نجد يصل ويُحلل في أصقاع المعمورة فيؤثر فيها خيرا أو شرا وكذا فبه تتأثر الديار السعودية.
ضرب الأمثال خير وسيلة لإيضاح المعاني، فهي طريقة القرآن "ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون". وفيها إظهار للمقاصد واختزال لطويل الكلام. والأمثلة في هذا الباب من الكثرة ما يحتار فيها المنتقي، ولكن في تزويج الصغيرة مثال شامل وعبرة.
كم من أحاديث صحاح رُدت من أجل احتمال وهم الراوي. كم وكم من الأحاديث الصحاح ومن الأحكام الفقهية عن علماء كبار بل وعن جماهير العلماء لا يُتحدث فيها ولا يُخبر عنها وتُكتم من باب السياسة الشرعية. وعلى سبيل التمثيل: ألم يُضيع فقه القروض والبيوع وذلك من باب السياسة الشرعية حتى خفيت أحكام دين محمد عليه السلام على الكثير في هذا الباب واستبدلت بحيل أصحاب السبت. فمرة يقال أتحدثون الناس بما لا يعقلون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ ومرة يقال رُوي في الصحيح أو قاله العلماء، فكيف تجادل فيه. وعند البحث عن الضابط الذي يضبط المسألة فغالب ما يكون إما تقليدا وإما حماية للنفوذ ويسمونه أحيانا سياسة شرعية. فسبحان الله تُكتم أحاديث وأقوال ومذاهب في أمور شتى ثم يُتعلق بحديث تزويج عائشة كأنه الفاصل بين المثبت للسنة والمنكر لها.
ومحاور وقفة التأمل في تزويج الصغيرة لا تخلو من أحد أمرين طالما أن الحديث ثابت الإسناد. فإما أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قد وهمت أو أنها ـ رضي الله عنها ـ لم توهم في حساب عمرها.
فإن لم تكن واهمة ـ رضي الله عنها ـ فلم يُتحدث فيها ويُناضل دونها بينما هناك أمور كثيرة أعظم منها سُكت عنها من باب السياسة الشرعية؟ فإن لم يكن ذاك بشيء، فغالب تزويج الصغيرة في زمننا المعاصر لا يخلو من شغار أو تحصيل فائدة لولي الأمر فلم لا يُمنع من باب سد الذرائع وقد تُوسع في باب سد الذرائع كثيرا عندنا والحمد الله حتى أصبح أصلا دون الكتاب والسنة. فإن لم يكن ذاك بشيء، فلم لا يُصمت عنه من باب سياسة الدفاع عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أن تناله ألسن السفهاء. فإن لم يكن ذاك بشيء، فلم لا يُستصحب منطق التبرير لهذا الأثر عن عائشة بأن ذاك العصر يختلف عن عصرنا الحالي. فلو سلمنا بأن زواج أم ست سنين والدخول ببنت تسع سنين كان مقبولا في عصر النبوة فهو قد أصبح مستنكرا ومستقبحا في عصرنا الحالي، فمن يتخيل الآن أن يطأ ابن الخمسين بنت تسع سنين!. فلم لا يُستصحب المنطق نفسه بأن الوضع قد تغير فيُمنع تزويج الصغيرة؟ فإن لم يكن ذاك بشيء، واحتُج بأنه قد قاله العلماء ممن سلف فلم لا يُفتى بإلزام بنات تسع سنين واللائي لم يحضن بأن يصمن ويقضين احتياطا! كما قاله علماء المذهب تفقها عجيبا من حديث زواج عائشة.
وماذا عن احتمالية وهمها رضي الله عنها. ألم يُخطأ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ووهموا في أمور كثيرة أوضح وأعظم من هذه. أو ليس حساب العمر هو من أكثر الأمور خطأ في الماضي وفي الحاضر. ألم يقل ابن عباس (عندما سئل عن عمره حين وفاة الرسول) كما رواه البخاري "وأنا يومئذ مختون" فقيل خمسة عشر وقيل ثلاثة عشر ونقل عنه قوله عشر سنين، والعرب خاصة لا تكترث بحساب أعمارها. وحتى في زمننا الحالي، أعطني فردا واحدا من آبائنا وشيوخنا في زمننا المعاصر من يعرف عمره حقيقة إلا مقاربة في حدود خمس سنين. وخمس سنين تفرق كثيرا بين الطفولة والصبا.
إن الشاهد في التمثيل بالإصرار على تزويج الصغيرة في زمننا المعاصر ما هو إلا مثال يوضح أنه لا ضابط هناك يضبط السياسة الشرعية. ولو كانت السياسة الشرعية تستخدم في محلها لكان الاعتراض على تزويج الصغيرة من أصلح مواقع استخدامها. فتزويج الصغيرة ليس من الأحكام التعبدية المحدودة بمكان أو زمان كالصيام وكالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمرات والتي قد يصعب على المجتهد التجديد فيها، بل هو أمر إن صح (ولم تكن عائشة قد وهمت ـ رضي الله عنها ـ) فهو من أعراف الناس وتقاليدهم كلبسه ومأكله عليه السلام ونحو ذلك. والإصرار على تطبيق تزويج الصغيرة يحكي مثالا حيا على مصائب التقليد والنفوذ على الأمة الإسلامية. وقد تُقلب الأمور (كما يحدث كثيرا) فيعتقد أنه من السياسة الشرعية أن يُحمى حمى التقليد ويُدفع دون نفوذ الطريقة، فالاعتراض على تزويج الصغيرة هو خروج عن التقليد وإضعاف لنفوذ الطريقة والمذهب، فيُستصحب التقليد في الإصرار على تزويج الصغيرة ويستخدم النفوذ في اتهام المخالف وإرهابه باتهامه برفض السنة النبوية والتأثر بأيدلوجيات الغرب. والعجيب أنه عند البحث عمن يزوج ابنته بنت الست والتسع سنين لا تجد من المُنظرين لزواج الصغيرة منهم من أحد. ولا يمارس هذا الآن إلا الجهلة من الناس أفلا يتقي الله من يفتيهم ويراعي عقولهم وإمكانية إدراكهم.
وقبل الختام، فإن كثيرا من الفضلاء المدافعين عن تزويج الصغيرة يتحدثون بما يدينون الله به ويرون ذلك من التعبد لله، فجوهر المشكلة هنا هو في منهج التفكير، لا طعنا في علم هؤلاء أو فضلهم أو تقواهم ولا نزكيهم على الله، ولكن هناك من المسترزقة الذين يسترزقون بالانتساب للدعوة النجدية ( وهي منهم براء) من يجعل مثل هذه الأمور شغله الشاغل غير آبه بما يجره ذلك على الدعوة وعلى الإسلام ككل.
إن حديث زواج عائشة وهي بنت ست سنين والبناء بها وهي بنت تسع هو مما وهمت فيه ـ رضي الله عنها ـ. وقد جر الإصرار على ذلك تفقه فقهاء القرون الوسطى بأحكام منكرة باطلة واحتياطيات وأغلال فرضوها على الأطفال من بنات المسلمين ما أنزل الله بها من سلطان ولا تزال وصمة في الفقه الإسلامي ومضربا للمثل بين أهل العلم على القرون الوسطى للفقه الإسلامي . وأما الآن فبجانب الأذى والظلم الذي يقع على هؤلاء الأطفال، فإن الإصرار على هذا الموضوع قد فتح الباب على مصراعيه في الطعن والاستهزاء بالرسول وبالرسالة من غير المسلمين. وكذلك بالطعن في الدعوة النجدية من المسلمين وغيرهم ونسبها إلى الجمود والتخلف وقذفها بشتى أنواع السباب والرفض. إن هذا المنهج الذي تخلى عن طريقة الأجداد في التجديد والتصحيح إلى التقليد والنفوذ هو عامل هدم يهدم هذه الدعوة المباركة. وصدق عليه السلام "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، فهل سينتصر أبناء الدعوة النجدية لها من ظلمهم إياها؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي