الاقتصاد العالمي.. علامات التعافي أم استمرار للركود؟!
مع قرب انفراج الأزمة المالية العالمية وظهور بعضٍ من علامات التعافي على الاقتصادات الرئيسة كنتيجة للسياسات المالية والنقدية الجادة التي انتهجتها معظم الدول للتخفيف من آثار الأزمة، بدأت التقارير والتوقعات تأخذ طريقها إلى الأسواق للترويج للتعافي الكامل للاقتصاد العالمي، وبأن سُحب الأزمة قد انقشعت، وأن النشاط الاقتصادي بدأ رحلة العودة إلى حالته الطبيعية. ما مصداقية هذه التوقعات وما علامات التعافي؟ في الأساس، عندما تستثمر أموالك في البورصة، شراء مختلف السلع المعمرة وغير المعمرة، شراء أو بيع منزل أو حتى شراء سيارة فأنت المُحرك الحقيقي للسوق، وعليه لا بد من النظر إلى المستهلك على أنه المؤثر في مُجمل الحركة المحلية ومن ثم الخارجية. لا جدال في أن الاقتصاد العالمي على درجة عالية من التشابك والتعقيد، ولذلك من الصعوبة الفصل بين مفرداته، خاصة بعد الثورة المعلوماتية الحديثة وما أحدثته من سهولة شديدة وتخفيف للتعقيدات السابقة المؤثرة في الحركة التجارية وتدفق رؤوس الأموال والمعلومات. وما من شك أن هُناك قوى فاعلة لها تأثير كبير في الحركة التجارية والمالية العالمية ألا وهي الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي. فسلوك المُستهلك في هذه البلدان سيؤثر حتماً في مُجمل الحركة المالية والتجارية العالمية. وحتى نرى درجة التَحسن أو ضدها، لابد لنا من التدقيق في أرقام ونتائج الفعاليات الاقتصادية لهذه الاقتصادت الكبيرة ومن ثم الحكم على مدى التغير الذي طرأ أو سيطرأ على بقية الاقتصادات الأخرى. هذه ليست مجاملة أو انحيازا، إنما واقع وحقيقة ماثلة للعيان، بل ملموسة، لأن النتائج التي خلفتها هذه الأزمة تدعونا إلى التفكر الواقعي والتأمل الاستشرافي بكيفية التعامل مع هذه القوى الاقتصادية الضاربة دون الإضرار بمصالحنا المُشتركة. ومن الخطوات الضرورية والأساسية لتشخيص هذا الواقع النظر إلى بعض المؤشرات الاقتصادية المهمة في تلك البلدان، هذه المؤشرات تعكس الواقع الحالي ومن خلالها يمكن التنبؤ بما سيؤول إليه الحال. ضمن الواقع الراهن للاقتصاد الأسترالي، نلحظ تحسنا طفيفا وتعافيا ملموسا انعكس على تراجع معدل البطالة بمقدار 0.1 في المائة ليصل إلى 7,5 في المائة لشهر أيلول (سبتمبر) من هذا العام، فقط بعد يومين من رفع سعر الفائدة في خطوة غير مسبوقة. أما بالنسبة للولايات المتحدة، التي تُعد العمود الفقري للاقتصاد العالمي وذات الهيمنة الاقتصادية التي في تعافي اقتصادها تعافي ونشاط للاقتصاد الدولي، مازالت بوادر الانتعاش فيها محدودة، وبالتالي يصعب التكهن بسلوك اقتصادها، خاصةً في ظل المُعطيات الحالية. بالتأكيد هذا لا يمنعنا من إمكانية تحديد بوصلة الانتعاش وفي أي القطاعات الاقتصادية. وضمن هذا السياق، ارتفعت البطالة فيها إلى أعلى مستوى لها منذ أكثر من 26 عاما شهر أيلول (سبتمبر) الماضي لتصل إلى ما يقارب 10 في المائة ما أدى إلى فُقدان نحو 263 ألف عامل وظائفهم باستثناء القطاع الزراعي، حيث فاقت هذه النسبة مجمل التوقعات. أما فيما يخص توقعات وكالة الطاقة الدولية للطلب على النفط، فكل التوقعات تصب في خانة الارتفاع بنسبة 1.7 في المائة عام 2010م، ويدعم هذا التوجه ارتفاع الاستهلاك في الأسواق الصاعدة وبداية انتعاش الأسواق العالمية من الركود الذي ألم بها، فمن المتوقع أن يصعد الطلب العالمي على النفط إلى 85.2 مليون برميل يومياً مُقارنة باستهلاك هذا العام البالغ 83.8 مليون برميل. ومن المعلوم أن الإنتاج الصناعي في الدول الرئيسة واجه أزمة حقيقية بعامة، فعلى سبيل المثال، عانت صناعة السيارات من تراجع حاد في إنتاجها وعلى الأخص صناعة السيارات الأمريكية حيث انخفض إنتاجها إلى ما يُقارب 45 في المائة منذ بداية الأزمة وإلى الوقت الراهن، كذلك انخفضت أسعارها في الولايات المتحدة ما بين 40 - 60 في المائة جراء هذه الأزمة، وكذلك الحال في كندا حيث وصل الانخفاض إلى ما يقارب الـ 80 في المائة لهذا العام. أما من الناحية المكانية فالأمر سيان، ففي اليابان تراجعت مبيعات السيارات الجديدة المُستوردة من الخارج بنسبة 33.9 في المائة شهر شباط (فبراير) الماضي، بينما انخفضت مبيعات السيارات التي تنتجها الشركات اليابانية في الخارج بنسبة 33.9 في المائة هذا العام. تاريخياً، ارتبط التغير في الأسواق المالية كمؤشر لمدى تعافي الاقتصادات من عدمها، وفي الفترة الأخيرة شهدت الأسواق المالية استقراراً وحققت بعض المكاسب السوقية هنا وهناك إلا أنها لم تصل إلى مرحلة تعويض الخسائر التي لحقت بها العام المنصرم، فقد حققت بعض المؤشرات المالية العالمية كنيكاي، فوتسي، وداوجونز وغيرها بعض التحسن الطفيف أقرب ما يكون استقراراً وهو المطلوب في هذه المرحلة. الشاهد هُنا، أن هذه الأسواق مازالت هشة وتتجاذبها التوقعات والمخاوف ما قد يسفر عن تذبذبات شديدة قد لا تُعطي إشارة واضحة تحدد به سلوكها. من المُؤكد أن أحداً لا يستطيع إنكار وجود أجواء تفاؤل دولية عامة بتحسن الاقتصاد العالمي ومُعاودة الانطلاق، إلا أن الحقائق على أرض الواقع تُشير إلى انتعاش ولكن الأوضاع العالمية، وخاصةً السياسية وما يرتبط منها بالعجز في ميزان المدفوعات الأمريكي ليست بالقوة الدافعة الكافية لتحقيق التحسن المأمول وبالسرعة المطلوبة. مما تقدم، نستطيع القول، إن شيئاً من الاستقرار قد طرأ على الأوضاع الاقتصادية العالمية، وهذا بحد ذاته تحسن، وعليه، فإن الانتعاش قادم بحول الله منتصف عام 2010، وترتبط وتيرته بالخطط التي وضعتها كل دولة على حدة لإبقاء اقتصادها على الطريق الصحيح. مشاركة القطاع الخاص وقدرته على توجيه دفة النشاط الاقتصادي ستبقيات مرهونتين بالتدخل الحكومي الذي سيستمر إلى أجل غير منظور.