سِيادة الثقافة الاستهلاكية.. نَعم للاعتدال!!

في كل مرحلة من مراحل التطور التاريخي، تسعى كل أُمة إلى تحقيق ذاتها وإثبات وجودها من خلال قدرة مؤسساتها المالية والتجارية والإنتاجية على مواصلة التطور والنمو في ظل ظروف اقتصادية مُتنوعة وتتفاعل مع قُوى مُتعددة ومُتضاربة المصالح. هذا التوجه سواء على المستوى الفردي أو الحكومي سيجد الدعم والرعاية من لدن أبناء الوطن على مختلف مشاربهم وذلك من خلال المُشاركة الفعالة والمساهمة في دفع التنمية الاقتصادية إلى الأمام. ففي ظل العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية الحالية يلزمنا النظر والتفكير المُتأمل الجاد في أوضاعنا الحالية والمستقبلية، علنا نجد مُتنفسا على الساحة الدولية يُحقق لنا ما نصبو إليه من نمو متوازن ومتواصل يُحقق أهدافنا المرسومة. لقد أسهمت حرية التجارة العالمية وفي ظل العولمة في تدفق السلع والخدمات، إضافة إلى الأفكار بين جميع الشعوب على هذا الكوكب، متجاوزةً كل الحدود الجغرافية والسياسية والاجتماعية ما جعل العالم قرية كونية واحدة متقاربة الثقافات ومتشابهة العادات مع سيادة الثقافة الغربية وأنماطها الاستهلاكية الشائعة. وفي معرض الحديث عن الثقافة الاستهلاكية، نُشير إلى أن ثقافة الأمة (أي أُمة)، وكما يُعرفها الكثير، هي عبارة عن مجموعة من الآراء والمُعتقدات والمعارف والقيم الأخلاقية وكذلك العادات والتقاليد التي يكتسبها الأفراد جراء انتمائهم إلى مجتمع معين وبذلك تعمل على تهذيب الطبيعة البشرية التي جبل الله الناس عليها، ما جعل الخصوصية الإنسانية ترجع إلى المحيط الجغرافي، الاجتماعي، والتاريخي الخاص بهذه الثقافة أو تلك، بحيث يحمل كل فرد من أفرادها تصورات وآراء ومعتقدات متراكمة عبر أجيال وحقب زمنية وقد غدت تتميز به عن غيرها. وهذا التميز لا شك أنه مرتبط بما جاوره من ثقافات أخرى متنوعة، ولعل وسائل الاتصال الحالية وتطورها ونقلتها النوعية الحالية من إنترنت ووسائل اتصال عصرية أسهمت في تحويل الثقافات من المحلية إلى العالمية. وفي سياق هذا التحول العولمي، بدأ دور الدولة في التراجع، وهي التي تتولى الدفاع والأمن وغالبية الإنتاج، وذلك بقصد تلبية جزء من احتياجات المواطنين، وقد خلف هذا التراجع جماعات نفعية اعتمرت عباءة الخصخصة والإنتاج منهجاً بقصد الوصول لمبتغاها وغاياتها، ما أدى إلى إضعاف الروابط الاجتماعية والوطنية وسبب كثيرا من مظاهر التخلف من طائفية وإقليمية بغيضة ودينية متزمتة مقيتة ونتج عنه الفقر والتخلف وهذه بالفعل «أزمة التطور الاجتماعي». غير أن الواقع يؤكد أن غالبية الأزمات قد ساعدت على ظهورها أدوات الرأسمالية الموجودة اليوم من صندوق النقد والبنك الدوليين، منظمة التجارة العالمية التي تُدير النظام العالمي التجاري الهادف إلى تحرير التجارة الدولية، والشركات المتعددة الجنسيات وما تملكه من قوة اقتصادية وهيمنة سياسية. السؤال المهم في هذا المقام، هل سيادة الثقافة الاستهلاكية سيئة وذات مردود سلبي على الاقتصاد الوطني؟ أم أن الأمر ذو أبعاد اجتماعية فقط وليس له تأثيرات اقتصادية؟. حقيقية، الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى وقفات لا يسعها هذا المقام، فمن جهة يعتقد الناس في العادة أن الادخار حسن وأن زيادة الادخار أحسن بل أفضل، ومع هذا فإن زيادة الادخار الأُسري معناه انخفاض في دخول الاقتصاد الوطني ككل ومن ثم يؤدي إلى الادخار السالب بحكم العلاقة الحميمية الموجبة التي تربط الدخل بالادخار ويُطلق على هذه الحالة «التناقض الظاهري للاقتصاد». من جهة ثانية، الاعتقاد السائد المذكور آنفا في حقيقته قد لا يكون إيجابياً للاقتصاد الوطني، لكن طالما أن الحكومات تسعى إلى تشجيع الاستثمار والذي سيكون عوضاً عن التسرب الادخاري للداخل، فلن يكون مصدر إزعاج أو يصبح مشكلة. إن كل هذه الحقائق دعت المهتمين بهذا الشأن إلى التأكيد على أن سيادة الإنفاق الاستهلاكي لا شك أن لها مردوداً سلبياً على الاقتصاد الوطني إن لم يكن هناك تعويض حكومي للادخار بطبيعة الحال. ففي ظل الظروف الاقتصادية الجيدة لن تكون هناك مشكلة كبيرة بالرغم من أنها تدعو للقلق، لأن الظروف المالية الجيدة قد لا تستمر إلى ما لانهاية. الشاهد في هذا المقام، أن سيادة الثقافة الاستهلاكية في دول العالم النامي ذي النصيب الجيد من الدخل يتنازعها عاملان، الأول منهما التحسن الملحوظ في دخول المستهلكين نتيجةً للإيرادات الجيدة لخزينة الدولة من صادرات النفط، والآخر مرده إلى سيادة الأنماط الاجتماعية ذات النفوذ الكبير والمُهيمنة على سلوك المواطنين، بحيث أصبحت مصدر قلق وتوتر. هذه الأنماط السيادية الاجتماعية من مباهاة، والاهتمام بالمظاهر البراقة والخادعة كلها مصدر ضغط على المستهلك لمجاراة غيره حتى يظهر بالمظهر المناسب أمام الغير حتى وإن كانت قدراته المالية ضعيفة أو محدودة. لا شك أن الاعتدال والتوسط هما مفتاح الحل فلا سيادة تامة للادخار ولا تفريط كاملا من خلال شراهة الاستهلاك وهذه لن تتأتى إلا من خلال برامج توعوية دينية وثقافية على كافة المسارات التعليمية للخروج من هذا المأزق الصعب بشكل علمي ومدروس. موارد الدولة المالية ليست فقط لتعويض النقص الحاصل نتيجة لفرط وشراهة الاستهلاك، إنما بقصد توظيفها من خلال قنوات استثمارية تحقق عائداً وتوظيفاً لأبناء الوطن على شكل مشاريع تنموية تكون رافداً مهماً لتعويض ما قد يطرأ على عائدات النفط المستقبلية من تآكل، وهو ما تسعى إليه قيادتنا الرشيدة بكل ما أُوتيت من قدرات وإمكانات مادية ومعنوية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي