كيف ومتى نحمي لغتنا الأم؟
تطرقنا في مقالي الأسبوعين الماضيين لما تتعرض له لغتنا العربية من تهميش وحرب من أبنائها قبل خصومها، وكيف أنه في الوقت الذي نضيع فيه لغتنا ونحقرها ونغتالها بأيدينا، نعلي من شأن اللهجات العامية ولغات أجنبية بدلا منها، وقارنا ما نفعله نحن بلغتنا الأم وبما سيؤدي لانقراضها كما توهمت منظمة اليونيسكو خلال القرن الحالي، بما يفعله الآخرون من حرص وغيرة على لغاتهم الوطنية، والإعلاء من شأنها وتدعيمها بل وسن القوانين لحمايتها من العبث والتهوين، وهي لغات أقل شأنا وقيمة وقدرة وسعة من لغة القرآن اللغة العربية.
وفي مقالة اليوم سأتطرق لسبل حماية لغتنا العربية من التردي الذي وصلت إليه، وكيفية استعادتها لمكانتها لتصبح لغتنا ولساننا المعبرة عن هويتنا، وهي لغة وباعتراف جميع اللغويين بمن فيهم الأجانب تمتلك كل مقومات اللغة القادرة على استيعاب كل العلوم والآداب، فها هو المستشرق الألماني نولدكة يقول (لابد أن يزداد تعجب المرء من وفرة مفردات اللغة العربية) ـ كتاب اللغة العربية لنذير حمدان ـ، وزميله المستشرق الفرنسي لويس باسينون يقول (استطاعت اللغة العربية أن تبرز أدق خلجات الفكر سواء كان ذلك في الاكتشافات العلمية والحسابية أو وصف المشاهدات وخيالات النفس وأسراره) ـ كتاب الفصحى لغة القرآن لأنور الجندي ـ، وغيرهم كثر ممن شهد للغة العربية وقدرتها وقوتها.
إن أردنا فعلا العودة للغتنا العربية وحمايتها من أن تصل لحد الانقراض - لا قدر الله - فلا سبيل لذلك إلا أولا بأن نعيد لها اعتبارها في مجالات حيوية كالتعليم والأعمال والإعلام، وهو ما يحتاج إلى وضع سياسة لغوية عربية شاملة تقوم على الاهتمام باستخدام العربية الفصحى المبسطة لا المقعرة، والتي يستخدمها البعض وبكل أسف للاستهزاء بلغة القرآن، في كل مجالات حياتنا في أقطارنا العربية، وأن يلتزم بهذه السياسة اللغوية للمحافظة على هويتنا الجامعة لنا كعرب والتي ترتكز أساسا على اللغة المشتركة لكل الأمة العربية، فلا معنى ولا قيمة لمسمانا عربا وأمة دون لغة واحدة نتحدث بها ونتفاهم من خلالها من مشرق الوطن العربي إلى مغربه.
إن أول سبل حماية لغتنا العربية واستعادة مكانتها يبدأ بالعمل الجاد على رجم الهوة التي تتسع ما بين الفصحى الجامعة للشعوب العربية، وبين العاميات العربية التي تسهم في تفرقها وتمزق لحمتها القومية، وبداية ذلك في التعليم وخاصة منه الجامعي، فعلينا الاعتناء بتعليم العربية للنشء الجديد تعليما صحيحا وجيدا، ونخلق لديه ذائقة لغوية تجعله يرتبط بها ويشعر بقيمتها وطلاوتها وثرائها، وألا نشتت ذهنه لغويا في المراحل الأولى خاصة بتعليمه للغة أجنبية، فالأولى أن يتعلم لغته الأم ويتقنها ويحبها، وأن يشدد على المعلمين بعدم شرح الدروس ومخاطبة طلابهم إلا بالفصحى وليس العامية، وفي المرحلة الجامعية لا بد أن يلزم بتعريب كل المناهج الجامعية بما فيها الكليات العلمية، فليس صحيحا على الإطلاق الادعاء بعدم صلاحية العربية لذلك، فهذا لم يقل به اليابانيون ولا الكوريون ولا الإسبان ولا الفرنسيون ولا غيرهم, ولغاتهم لا تتفوق على لغتنا العربية، وهناك دول عربية طبقت التعريب الكامل حتى في كليات الطب كسورية مثلا ونجحت فيه، ولا يمنع ذلك من أن تعلم لغة أخرى كالإنجليزية كلغة فقط، والإعلام أحد أهم المجالات التي يجب أن يعتنى بها ويهتم بنشر العربية الفصحى من خلاله ولا نبالغ إن قلنا بأن الإعلام المرئي والمسموع يسهم سلبيا في تدمير الفصحى من خلال تركيزه على اللهجات العامية في برامجه، وإلى جانب التعليم لابد من فرض الفصحى الميسرة والبسيطة على ما يقدم فيها من برامج وخاصة الموجهة للأطفال والشباب حتى يتعودوا عليها، ويأتي أخيرا قطاع الأعمال الذي يجب أن يعاد إلى حظيرة العربية بعد أن أوغل في تغرب لغته المستخدمة بأن يلزم بتعريب جميع تعاملاته وتستخدم أي لغة أجنبية كلغة بينية فقط للتواصل مع العالم الخارجي، لا أن تنحى العربية تماما فيه وحتى من مسمياته.
إن هذه التعددية اللغوية ما بين لهجات عامية ولغات أجنبية يكثر استخدامها وفصحى مهملة، لا تهدد فقط لغتنا الواحدة والمفهومة من الجميع، بل إن لها آثارا سلبية حتى على الطفل العربي في ظل هذه التعددية والتشتت اللغوي، خصوصا من توجه البعض لتعليم أبنائهم في مدارس أجنبية ظنا منهم حصولهم على تعليم أفضل، وإن كان ذلك صحيحا لحد ما، إلا أن له نتائج نفسية وثقافية سلبية، وهذا ما نبه إليه الدكتور أحمد عكاشة رئيس الجمعية الدولية للطب النفسي من أن الطلاب العرب الذين يتلقون تعليمهم في مدارس أو بمناهج أجنبية يميلون للشعور بالنقص واحتقار الأهل والشعور بالاغتراب الثقافي في بلدانهم، وهذه إحدى أخطر السلبيات لنشوء مثل هذه التعددية اللغوية وما تمثله من مثالب.
أخلص بأن هذه المقالات، التي تناولت فيها لغتنا العربية وما تعانيه من إهمال وتهميش وإبعاد عن الاستخدام في مجالاتنا الحيوية والاستعاضة عنها بلغات أجنبية، لم أتطرق فيها لقضيتنا اللغوية بدوافع عاطفية بحتة، بل لقناعة بأننا نعمل على هدم وإماتة لغة حية وثرية عمرها ألفا عام صمدت خلالها وتجددت مع مرور الزمن، وللتنبيه بأن ما يجري لها اليوم تحت سنابك مد العولمة وخاصة الثقافية والإعلامية هو جزء من محاولات سابقة حاولت القضاء على وجود هذه اللغة لعزل العرب خصوصا عن دينهم وإضعاف لتأثير القرآن الكريم بلغته الربانية التي وصفها الله - سبحانه وتعالى - بأنها بلسان عربي مبين، وعلينا أن ندرك أن المستهدف الأول من هذه الحرب على لغتنا العربية لغة القرآن هو الدين الإسلامي، ولهذا نقول إن حماية هذه اللغة القرآنية واجب على كل عربي ومسلم، والتهاون فيه هو جزء من هذه الحرب، فهل نعي وندرك ذلك..؟ ومتى نتحرك من أجل صيانتها وحمايتها من هذا العبث التخريبي الواسع لها تعليما وأعمالا وإعلاما؟ أم هذا زمن ينطبق علينا ما قال به ابن خلدون في مقدمته «إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده.. إن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء».!!