هل ستستثمر مؤسسة النقد في الشفافية مع أزمة دبي

قبل يومين، أي في يوم الإثنين الماضي، نشرتُ في جريدتي هذه ''الاقتصادية'' تحليلا موجزا عن أزمة دبي. وذكرت مما ذكرت فيه أنه قد تبين أن دبي ليست على مستوى عال من الشفافية, كما كان يُظن، واعتذرت لها بأن ذلك له عذر منطقي اقتصادي. فالشفافية في حقها لم تكن في المصلحة العامة للإمارة. والغرض من الشفافية هو لتحصيل مصالح لا تتحقق بالضبابية. ومن يتصدى لخدمة القطاع العام ويتحمل مسؤوليته يجب عليه أن يُكيف مبادئه وأخلاقياته، حيث تخدم المصلحة العامة وإن كانت تخالف المُثل والمبادئ التي يؤمن بها. فلا تُلام دبي على الضبابية التي مارستها أخيرا من أجل حماية مصالحها الوطنية. ثم ساقتني هذه الفكرة إلى أن أتساءل بسؤال مفتوح خاص ببلادي مضمونه هل الشفافية الكاملة من مؤسسة النقد (البنك المركزي قمة الهرم للنظام النقدي والبنكي) من المصلحة العامة للبلاد أم لا. وقد ختمت تحليلي ذاك بفراري إلى الإجابة المفتوحة ''هذا موضوع فيه خلاف ليس هذا مكانه''. وفي هذا المقال سأبحث مواضع الخلاف في هذا الموضوع.
لا يخفى على أحد أن بلادنا تمر بمراحل تغيير جوهرية متسارعة من أجل اللحاق بمن حولنا لنواكب العالم الجديد الذي يفاجئنا بمتغيرات استراتيجية سياسية كانت أو اقتصادية أو ثقافية سريعة ومتلاحقة. وأسرع منها وأعجب سرعة تكيف العالم من حولنا مع هذه المتغيرات ومن يتخلف عنها أو يتباطأ فهو يحفر بهدوء قبرا واسعا لبلاده. ومما استُجد من الأهداف الاقتصادية في بلادنا - في عصر هذا الملك الصالح - هو الطموح لكي تصبح الديار السعودية المركز المالي الأول للشرق الأوسط. ومما استجد في ثقافة بلادي - ولكن على استحياء ووجل - ظهور مبدأ الشفافية ودعم حرية الصحافة لتحفيز هذا المفهوم. فالأوضاع الحالية بمتغيراتها وطموحاتها تختلف عن الأوضاع السابقة. فما كان يخدمنا بالأمس ربما لا يخدمنا اليوم أو ربما لا يخدمنا في المستقبل الذي نطمح إليه. ومن العموم إلى الخصوص، فما كان صالحا من سياسات مؤسسة النقد ونافعا للبلاد في الماضي ربما لا يكون صالحا للمستقبل المأمول.
الشفافية استثمار عظيم له كلفة وثمن يبذل من أجل تحقيق ربح استراتيجي هو الفوز بالمصداقية. هذا الربح أو المصداقية تُدخر للشدائد والمصاعب الخطيرة. فمن أجل ذلك بذلت الدول المتقدمة وغيرها من المنظمات المالية الكثير في هذا الاستثمار -الشفافية- مضحية بخسائر متنوعة في أزمات مختلفة - كانت من الممكن أن تتجنبها بالضبابية - من أجل الفوز بالمصداقية. ومتى تحققت المصداقية سهُل بعد ذلك استخدامها بذكاء لحل مشكلات استراتيجية قد تمر بها البلاد أو المنظمة. كما يصعب بعد ذلك خسارتها، فالناس يجدون عذرا لصاحب المصداقية إذا تخلى عنها لسبب ما في موقف معين. وأقرب مثال واضح لذلك استخدام قرينسبان - رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي - لمصداقية بلاده الاقتصادية ولمصداقيته التي بناها خلال 20 عاما لإخراج بلاده بذكاء ودهاء من الأزمة الاقتصادية التي دخلت فيها بلاده متزامنة مع حادث 11 من أيلول (سبتمبر) عام 2001م.
عبر أشواك ومعوقات متنوعة تشابكت فيها تعقيدات السياسة بألغاز الاقتصاد بقيود الثقافة، قاد الشيخ الحكيم المحافظ حمد السياري دفة السياسة النقدية في بلادنا لعقود خلت، مرت فيها البلاد بأزمات مالية نقدية حرجة لم يشعر بها أحد بنى فيها الشيخ الحكيم مصداقية العملة السعودية. وتغيرت الأحوال واستجدت أمور وعلت الهمم والطموحات في بلادي. وأصبح حتما علينا أن نضيف إلى مصداقية العملة السعودية - التي بناها الحكيم السياري - مصداقية الثقة بكل ما تصرح به مؤسسة النقد. وقد بدأ الدكتور الجاسر مهامه كمحافظ لمؤسسة النقد بالظهور المكثف في الإعلام معلنا لمرحلة جديدة من تأسيس مفهوم الشفافية في النظام المالي والنقدي في بلادنا. ولكنه سرعان ما خف هذا الحماس الإعلامي مخلفا وراءه الأسئلة المتحيرة. والدكتور الجاسر رجل اقتصادي من النخبة الألمعية النادرة, وهو مع ذلك حاد الذكاء والفطنة قوي المنطق وسياسي محنك إضافة إلى أنه متحدث بليغ وشخصية مشرفة في المحافل الدولية، ولست وحدي المفتون به بل وحتى حاسدوه وأنداده يشهدون له بذلك. إذن فهذا الاقتصادي والسياسي المحنك والمتحدث البارع ليس في حاجة إلى من يخبره متى يسكت ومتى يتحدث، ولكن الناس والمجتمع الاقتصادي هم الذين في أمس الحاجة لكي يعلموا لماذا سكت الجاسر ولماذا تحدث. فمثل هذا الرجل لا يسكت إلا لحكمة ولا يتحدث إلا لسبب. وهذا يقودنا إلى افتراض فرضية بأن الجاسر يواجه مشكلات اقتصادية معينة فضل أن يحلها بهدوء ودون إثارة البلابل ليست في المصلحة العامة، فآثر ألا ينفي خبر المكذوب منها لكي لا يستنبط الناس صدق خبر المسكوت عنه. وهذا ما يقودنا إلى الخلاف الذي أوردته في بداية مقالي هل الشفافية الكاملة من مؤسسة النقد من المصلحة العامة للبلاد أم لا''.
وسأستدل على فرضيتي هذه بمثال. فمنذ أشهر تناقلت وسائل الإعلام خسارة المملكة نحو 50 مليار دولار من صندوقها السيادي، اعتمادا على تناقص الموجودات الأجنبية للسعودية. وأي متتبع للمسألة يعلم أن هذا باطل ولكنه من المحاولات الإعلامية لزج السعودية إعلاميا في الأزمة المالية العالمية. فالموجودات الأجنبية ليست بصناديق سيادية بل هي إيداعات في سندات حكومية أجنبية. وهذه قد ارتفعت قيمها مع بداية الأزمة. وأما تناقص قيمة الموجودات الأجنبية فتحقق حسب معلومات مؤسسة النقد فيما بعد، مما يؤكد أنها قد استُخدمت في مشاريع تنموية خارج الميزانية. فلم لم يُنف الخبر؟ قد تكون هناك أمور سياسية لا نعلم بها، ولكن على حسب فرضيتي أن نفي هذا الخبر وغيره من الأخبار الكاذبة عن الاقتصاد السعودي سيفتح الباب لتأكيد الأخبار المزعجة التي لا تقوم مؤسسة النقد بنفيها.
قد أكدت كثيرا في مقالات سابقة وفي مقابلات تلفزيونية كثيرة بأن المملكة بعيدة كل البعد عن الأزمة المالية العالمية رغم محاولات الإعلام للزج بها. وهذا لا يعني أنه قد تكون هناك تعثرات وإخفاقات مالية هنا وهناك في المؤسسات المالية تعمل مؤسسة النقد على حلها وتجاوزها بهدوء ودون إثارة بلبلة قد يكون من شأنها الإضرار نوعا ما بالسوق المالية عندنا. وهنا يظهر الخلاف هل الشفافية أصلح لحالنا أم الضبابية. لا تخلو الدول ولن تخلو عموما ومنها السعودية يوما من مشكلات مالية ليست استراتيجية في مؤسساتها الاستثمارية. والشفافية بشأنها قد تكون مكلفة ولكنها هي ثمن الاستثمار للفوز بالمصداقية. إن لم ندفع ثمن المصداقية الآن ونحن في أوج قوة المملكة المالية وفي وضع مالي هو أفضل ما تتمناه معظم الدول فمتى نستثمر في الشفافية، والبر لا ينفع يوم الغارة. فقد يأتي يوم - لا سمح الله - نحتاج فيه إلى هذه المصداقية لنستخدمها في تسهيل وتمرير أزمة استراتيجية حقيقية فلا نجد ما نستعين به. ودعنا من هذا الجانب المتشائم، ولننظر إلى الجانب المشرق المتفائل. فكما أشرت سابقا فطموحات المملكة تعدت وضع حلول للأزمات وتسعى إلى قيادة الشرق الأوسط ماليا. والقيادة المالية لا تتحقق إلا بالثقة والثقة لا تتأتى إلا بالمصداقية وطريق المصداقية هو الشفافية.
يوم السبت ينتظر المجتمع الاقتصادي المحلي والدولي أخبار آثار أزمة دبي على المؤسسات المالية عندنا التي سيكون لها آثار بلا شك ولكنها لن تهز موقف المملكة المالي ولا أدنى شعرة, اللهم إلا في بعض المؤسسات المالية التي قد تتأثر عندنا وعلاج الآثار متوافر وهين. فهل ستكون الشفافية هي شعار مؤسسة النقد بالإخبار الكامل ومن ثم شرح جميع ما ستقوم به المؤسسة لاحتواء هذه الآثار أم أنها ستخلق جوا من الضبابية حولها وتحل مشكلات هذه المؤسسات بهدوء وصمت لتجنب التبعيات السياسية والاقتصادية غير المرغوبة فيها, وإن لم تكن خطيرة. هذا خلاف لكل فريق وجهة نظر قوية فيها والمرجع فيها إلى من تحمل مسؤولية خدمة الوطن.
وهناك جانب آخر من المحاجة. وهو أن ثقافة الشفافية في بلادنا عموما لا تزال في مرحلة الطفولة والصغير ربما لا يحتمل الضغط عليه في التعليم فينفر فيهلك. ويجاب عليه بأن الصغير إن لم يُشد عليه في التعليم نما كسولا متواكلا, ودليل ذلك الاتفاق في هذا الرد هو الدرس القاسي الذي تعلمه المواطن من الاقتراض للاستثمار في سوق الأسهم, ولم يُخفف عنه الدرس بأن يُسمح له بإعادة تمويل قرضه الذي اقترضه بأسعار الفائدة المنخفضة الآن لارتهان راتبه في الدين الأول. وقد يُستشهد بقوله تعالى ''وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ'' فيُرد عليه أن هذا في الأمور العظيمة والتي قد يساعد على تجاوزها توافر المصداقية من قبل الأزمة فيُسلم الناس أمورهم فتُتجنب البلبلة والفوضى في السوق المالية في وقت تكون فيه البلاد في أشد الحاجة إلى زرع الثقة بالنظام المالي، إذن فالآية شاهد على من أوردها لا على مخالفة. فها نحن نعود إلى المربع الأول ونقر بأن المسألة خلافية. والأسبوع المقبل سيبين لنا إلى أي جانب من الفريقين المتحاجين المتخالفين ستقف مؤسسة النقد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي