جانب آخر للكارثة

ذهولنا كان كبيراً ونحن نشاهد جنوب مدينة جدة وقد تحول إلى منطقة كوارث حقيقية جراء تدفق السيول عليه من الجبال وعبر الأودية التي تحولت إلى شوارع ومخططات سكنية قامت عليها الأحياء وأنشئت وعمرت في طريقها، في غيبة رؤية تخطيطية وأمانة مسؤولية، وإهمال لعشوائيات منقطع النظير، ثم كان حزننا وألمنا أكبر وأشد وقد عرفنا أن السيول جرفت بيوتا وسيارات وأغرقت أنفاقاً جديدة وحديثة بالمياه، وما زاد من الحزن والألم أن هناك من قضى في تلك السيول الجارفة، وفقد حياته في لحظة مأساوية، وبعضهم خسر ما يملك من سكن أو أثاث أو سيارة، إلا أن ما خفف المعاناة ولملم الجروح بلسم الأمر الملكي بجانبه الإنساني بمسارعة إقرار تعويضات عاجلة للمتضررين، لا ترد بالطبع ما فقد خاصة الأرواح البريئة والآمنة جعل الله أصحابها من الشهداء، لكنها تواسي جراحا هي في نهاية الأمر قضاء وقدر لا راد لهما، وابتلاء نسأل الله منه الأجر والثواب وصلاح الحال، وكذلك في جانبه النظامي والإجرائي الحازم بتشكيل لجنة عالية المستوى لتحديد المسؤوليات وجوانب القصور والإهمال، تمهيداً للمحاسبة والعقاب لكل من تسبب وأسهم في الكارثة، حتى لا تتكرر لا في جدة ولا غيرها بإذن الله.
هذا كان الجانب الواضح والبارز والأهم للكارثة التي حلت في مدينة جدة، إلا أن هناك جانبا آخر لها، وهذا الجانب يتمثل في تحرك طبقة تجارية طفيلية استغلت الوضع، واستثمرته بطريقتها البشعة المعتادة, من خلال رفع أسعار ما تقدمه من عمل وخدمات يزداد احتياج الناس إليها في مثل هذه الأوضاع المأساوية والكارثية، التي وجدت فيها فرصا لجني المكاسب المادية بالاستغلال المادي البشع والمبالغ فيه الذي يصل إلى حد السلب والنهب من خلال عدم مراعاة ظروف الناس ومعاناتهم، بل القيام باستغلالها واستثمارها بقوة وبلا رحمة وشفقة لمصلحتهم، وتعاملنا في هذه الكارثة تحديدا مع نماذج لهذه الفئة الطفيلية المستغلة والتي عايشها الناس في مدينة جدة، فأثناء كارثة الأمطار والسيول وما بعدها، سارعت هذه الفئة إلى استغلال حاجة الناس إلى ما في يدها من مهنة وخدمة برفع الأسعار المبالغ فيه، الذي يعكس حالة استغلال واضح لاحتياجات الناس، خاصة في ظل ظروف صعبة ومعاناة شديدة تصبح فيه الحاجة ملحة وضرورة، وخذوا مثلاً كيف أن أصحاب رافعات السيارات فرضوا أسعارا خيالية لقطر سيارة علقت في السيل، أو تعطلت من مياه الأمطار وصل إلى مبلغ 1500 ريال لعمل قد لا يستغرق نصف ساعة، وإذا لم ترضخ لمطلبهم تركوك وسيارتك، والعاملون في مغاسل السيارات فعلوا الشيء نفسه، وكذلك سائقو سيارات الأجرة، وأصحاب الشقق السكنية المفروشة تحديدا, وبعضهم وبكل أسف رفض قبول من يحوّل إليه من قبل الدفاع المدني، وحجته في ذلك صعوبة حصوله على حقوقه، وما لم يدفع مبلغا كبيرا كمقدم، بل إنه حكى لي شخص أنه ذهب لشراء بعض الفرش لإيواء أقارب له تضرر منزلهم من السيل، ففوجئ بأن الأسعار تضاعفت مرة ومرتين.
لا بأس, بل منطقي أن ترتفع الأسعار في مثل هذه الحالات والظروف حسب منطق العرض والطلب في الاقتصاد الحر، لكن أن ترتفع لأضعاف مضاعفة ونسب مرتفعة جدا فذلك ليس مقبولا ولا معقولا، فارتفاع الأسعار يأتي لتعويض زيادة التكلفة مثلا أو الجهد الزائد المبذول، لكن وفق نسب معقولة ومتناسقة، وما حدث في مدينة جدة بعد كارثة السيول هو أن أمر هذه الفئة التجارية الطفيلية انفلت من عقاله، ومارست أبشع وأعتى صنوف الاستغلال والجشع للناس، وعكست بأننا نعيش فوضى تجارية وليس حرية تجارة لها بالتأكيد ضوابطها وقوانينها المفقودة وغير الممارسة، ومثل هذا الاستغلال والجشع بات أمرا طبيعيا ومعتادا عليه في المناسبات، قبل أن نعرف الكوارث، فالجميع يستغلها برفع الأسعار دون معايير محددة، وهو نتيجة غياب الرقابة والضبط وعدم وجود قانون مطبق ومعمول به لحماية المستهلك من مثل هذه المغالاة والاستغلال والجشع خصوصاً في مثل هذه الظروف وغيرها، وكم كان إيجابيا لو أن فرع وزارة التجارة في جدة بالدرجة الأولى مثلا بالتعاون مع الأمانة، جندا فرقا تتواجد في مواقع محددة تراقب وتتابع لمنع أي استغلال وجشع، فدورهما هنا لا يقل عن دور غيرهما من جهات أثناء كوارث وظروف كالتي مرت بها مدينة جدة، إلا أن غياب دور وتواجد فرع التجارة تحديدا في جدة ومعها الأمانة التي نتفهم انشغالها بما هو أهم، هو ما أسهم في أن تمارس تلك الفئة التجارية الطفيلية استغلالها وجشعها على الناس دون أن يرف لها جفن من حساب وعقاب وضبط، وخشية من أن تغرم وتمنع من ممارسة المهنة مثلا، ومعظم هؤلاء الممارسين لاستغلال الناس هم من العمالة الأجنبية التي لا تهتم ولا تشعر بواجب وطني في مثل هذه الظروف، بل المؤسف أسفا شديدا أن هناك قلة شاذة من المواطنين مارسوا نفس الفعل المستغل، فما سمعته وأرجو ألا يكون صحيحا، أن هناك من كان يعرض المساعدة على أصحاب السيارات المتعطلة بمقابل مادي، وهذا فعلا مصيبة.
إن إدارة الكوارث الفعالة، خصوصا، تقوم على تضافر وتكامل عمل عدة جهات وفق خطة عمل واحدة توزع فيها المهام والأدوار لمواجهة أي ظروف صعبة وكوارث بشكل متكامل، لا أن يركز على جوانب، على أهميتها وأولويتها المطلقة بالطبع، فقط وإهمال جوانب أخرى، فمن المعروف أنه في المناسبات الإيجابية والسلبية هناك مستغلون يتصيدونها لاستغلال الناس بجشع وطمع لا حدود له، وهو ما يمثل الجانب الآخر من أي كارثة، الذي كان حريا بأن يهتم به ويتابع حتى لا تترك «الدرعا ترعى».

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي