ربط الريال بسلة عملات لم يعد خيارا مجديا
أزمة المال العالمية وما ترتب عليها من ارتفاع كبير في عجز الميزانية الفيدرالية والدين العام الأمريكي كان يتوقع أن ينتج عنه تراجع حاد في سعر صرف الدولار الأمريكي أمام العملات الرئيسة الأخرى، إلا أن تخوف المستثمرين من تداعيات تلك الأزمة جعلهم يلجأون إلى سندات الخزانة الأمريكية فهي في نظرهم القناة الاستثمارية الأكثر أمنا في جو عدم الثقة الذي كان يسيطر على نفسيات المستثمرين حول العالم، باعتبار أنه من غير المتوقع إفلاس الولايات المتحدة أو امتناعها عن سداد تلك السندات، لذا فقد شهد سعر صرف الدولار أمام العملات الرئيسة الأخرى تحسنا كبيرا على عكس ما كان متوقعا، إلا أنه ومع نجاح سياسات التحفيز النقدية والمالية في تجنيب الاقتصاد العالمي السيناريو الأسوأ لهذه الأزمة تراجع سعر صرف الدولار، حيث إن مؤشر الدولار، وهو المؤشر الذي يقيس تغيرات سعر صرف الدولار أمام عدد من العملات الرئيسة، وصل أوائل هذا الشهر إلى أدنى مستوى له في ثلاث سنوات.
إلا أن تجدد المخاوف أخيرا من استقرار الوضع المالي في عدد من دول منطقة اليورو، خاصة اليونان وإيرلندا وإسبانيا وإيطاليا أدى إلى اهتزاز الثقة باليورو من جديد، حيث تراجع سعر صرفه أمام الدولار فوصل يوم الجمعة الماضي إلى نحو 1.43 دولار مقارنة بما يزيد على 1.5 دولار لليورو قبل عدة أيام، فرغم أن الوضع المالي في عدد من دول منطقة اليورو الرئيسة مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا مستقر إلى حد كبير إلا أن استقرار العملة الأوروبية الموحدة مرتبط بوضع أضعف أعضائها، وليس فقط بوضع أقواها. فمن بين تداعيات أزمة ديون دبي أخيراً تسليط الضوء على الصعوبات التي يواجهها عدد من دول منطقة اليورو، خاصة اليونان في الوفاء بالتزاماتها المالية في ظل الارتفاع الكبير في مديونيتها، حيث يبلغ الدين العام اليوناني حاليا ما يزيد على 300 مليار يورو أو ما يزيد على 110 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، كما يتوقع أن يزيد عجز ميزانيتها هذا العام على 13 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، ويدل على تخوف المستثمرين من هذا الوضع الارتفاع الكبير في تكلفة التأمين على هذه الديون وارتفاع معدل الفائدة على أدوات الدين العام اليونانية بما يزيد على 2.6 في المائة عن معدل الفائدة على سندات الدين العام الألمانية، وهو أمر غير مقبول في ظل كونها جميعاً دولا تضمها وحدة نقدية، الأمر الذي أضعف الثقة باليورو وحد من قدرته على منافسة الدولار رغم كل ما يواجهه الدولار من صعوبات.
وحيث إن الأوضاع الاقتصادية في بريطانيا واليابان ليست بأحسن حالا من نظيرتها في منطقة اليورو، فإن ذلك يعني أن معظم العملات الرئيسة في العالم تعاني عوامل ضعف هيكلية تمنع ارتفاعها بشكل حاد أمام الدولار، وهو ما يفسر الارتفاع الكبير في سعر الذهب خلال الأشهر القليلة الماضية. فتدني الثقة في معظم العملات الرئيسة يجعل من غير الممكن تحقيق التوازن في أسواق النقد من خلال تغيرات تحدث في أسعار الصرف، فذلك يستلزم أن هناك عملة تتراجع وأخرى ترتفع، لكن عندما يكون هناك ضغط على جميع هذه العملات للتراجع يصبح ارتفاع الذهب هو الحل الوحيد الذي يضمن تراجعها جميعا حتى إن حدث بعض التصحيح في أسعار الصرف البينية لهذه العملات. وفي اعتقادي أن هذا ما يفسر الارتفاعات الحادة في أسعار الذهب خلال الأشهر القليلة الماضية، فسوء الأوضاع الاقتصادية وارتفاع المديونية العامة في معظم الاقتصادات العالمية المهمة يعني أن عملاتها مقومة بأعلى من قيمتها الحقيقية ما يملي ضرورة تراجع قيمتها أمام الذهب بدلا من أن يكون هناك تغيرات حادة في أسعار صرفها البينية. ما يعطي مؤشرا خطيرا على أن معدلات التضخم العالمية ستشهد ارتفاعا كبيرا خلال المرحلة المقبلة كنتيجة حتمية لهذا التراجع في قيمة العملات الرئيسة في العالم وبالتالي قوتها الشرائية الذي يعكسها تراجع قيمتها أمام الذهب أو لنقل سعر صرفها أمام الذهب، خاصة أن هذا الارتفاع في معدلات التضخم قد يكون أفضل حل متاح لإعادة الاستقرار المالي في الدول التي تعاني مديونية عالية، فمع ارتفاع معدلات التضخم تنخفض القيمة الحقيقية لديونها وتزداد بالتالي قدرة هذه البلدان على التحكم بها بعد أن خرجت عن السيطرة بسبب سياسات التحفيز وإعادة الاستقرار النقدي والمالي التي اضطرت إلى تبنيها، تجنباً لما هو أسوأ في ظل الأزمة المالية العالمية.
ما الذي يعنيه كل ذلك بالنسبة للدول التي تربط عملاتها بالدولار كالمملكة وعدد من الدول الخليجية الأخرى؟ هذا الواقع يعني أنه لم يعد مجدياً ربط عملات هذه الدول بسلة عملات بدلا من الدولار، فكون معظم العملات الرئيسة في العالم تعاني عوامل ضعف هيكلية تمنع ارتفاعها أمام الدولار بشكل كبير يملي أن سلة العملات لا يمكن أن توفر حماية لهذه العملات من تراجع قيمتها الشرائية، وبالتالي حماية اقتصاداتها من الارتفاع المتوقع في معدلات التضخم العالمية، ويصبح الحل الأنسب إعادة تقييم عملاتها أمام الدولار من وقت إلى آخر، ما يسمح بالحد من التأثير التضخمي لتراجع القوة الشرائية للدولار. كما يعني أيضا أن تنويع السلطات النقدية لاحتياطياتها من خلال زيادة موجوداتها من العملات الأخرى لم ولن يكون مجديا في ظل حالة التوازن النسبي في أسعار صرف العملات الرئيسة، وعليها بدلاً من ذلك زيادة احتياطياتها من الذهب فهو أفضل خيار متاح أمامها لحماية القيمة الحقيقية لاحتياطياتها.