ميزانية مواصلة مواجهة أزمة المال العالمية
لا يزال الاقتصاد العالمي يعاني تبعات أزمة المال العالمية التي انطلقت شرارتها الأولى في أيلول (سبتمبر) 2008 وهددت الاقتصاد العالمي بكساد شامل, وكان النظام المالي العالمي بسببها على وشك الانهيار، لذا فقد أطلقت أكبر خطة إنقاذ اقتصادي في التاريخ, ليس فقط من حيث حجم حزمة الإنقاذ النقدي والمالي التي أقرت, إنما أيضا في عالميتها، حيث تبنت الدول الصناعية كافة ومعظم الدول الناشئة وعديد من الدول النامية سياسات اقتصادية توسعية استهدفت إعادة الاستقرار إلى أسواق المال والحد من تأثيرات هذه الأزمة في الإنتاج والتوظيف. ومعظم دول العالم التي تبنت هذه السياسات التوسعية مولتها من خلال الاقتراض ما تسبب في عجز هائل في ميزانياتها وارتفاع كبير في دينها العام. وكانت المملكة بين دول قليلة في العالم امتلكت القدرة على زيادة إنفاقها العام لدعم قدرة اقتصادها على مواجهة هذه الأزمة دون الحاجة إلى الاقتراض بفضل امتلاكها فوائض مالية كبيرة قادرة على سد أي ثغرة في إيراداتها لعدة سنوات دون الحاجة إلى اللجوء إلى أسواق المال للاقتراض. بل تكون هذه الأزمة قد خلقت في الواقع فرصة مناسبة لزيادة الإنفاق الاستثماري الحكومي، باعتبار أن حالة الانكماش الاقتصادي السائدة عالميا نتج عنها تراجع في أسعار السلع الأساسية وأصبحت الشركات العالمية ساعية إلى الفوز بعقود مشاريع في دول أخرى تعوض به تراجع حجم أعمالها في بلدانها الأصلية.
وكما يظهر في بيان وزارة المالية الصادر أمس بمناسبة ميزانية عام 2010 فإن الإنفاق الحكومي الفعلي عام 2009 بلغ 550 مليار ريال, أي بزيادة بلغت نسبتها 16 في المائة عن تقديرات ميزانية عام 2009 التي كانت مقدرة بـ 475 مليار ريال، وهو ما يمثل نمواً قدره 8 في المائة عن الإنفاق الفعلي عام 2008, الذي بلغ 510 مليارات ريال. من ثم فإن هذه الميزانية تظهر أن المملكة لم تقم فقط بالمحافظة على معدلات الإنفاق الحكومي التي كانت سائدة قبل أزمة المال العالمية، أي عندما كانت أسعار النفط الخام تحقق ارتفاعات متواصلة، وإنما قامت في الواقع بزيادة الإنفاق الحكومي بقوة وهو ما يمثل استغلالا مناسبا لفوائضنا المالية حتى لو ترتب على ذلك ارتفاع مؤقت في عجز الميزانية, الذي بلغ هذا العام 45 مليار ريال. من ثم فقد كان اقتصادنا واحدا من أقل الاقتصادات العالمية تأثراً بهذه الأزمة، فكون الإنفاق الحكومي المحرك الأساس للنشاط الاقتصادي في المملكة يعني أن أفضل استراتيجية مالية يمكن اتباعها للحد من تأثير أزمة المال العالمية في اقتصادنا هي عدم تخفيض الإنفاق الحكومي, خاصة الإنفاق الاستثماري، فمثل هذا التخفيض سيملي تراجعاً في نشاط مختلف القطاعات الاقتصادية باعتبار أن أداءها يرتبط بحجم الإنفاق الحكومي بشكل مباشر، كما سترتب عليه تفويت فرصة سانحة للمملكة، قد لا تتكرر مستقبلا، لإعادة بناء وتوسيع بنيتها التحتية بما يتناسب مع النمو الكبير في عدد السكان وتطور النشاط الاقتصادي في المملكة.
من ثم حافظ الاقتصاد السعودي على درجة عالية من الاستقرار خلال عام 2009, الذي يبدو جليا من تحقيق الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي نموا حقيقياً قدره 3 في المائة، والذي يعني أن النشاط الاقتصادي المحلي حافظ على قوته على الرغم من التداعيات الخطيرة لأزمة المال العالمية. فرغم أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بقي عند معدلاته نفسها عام 2008، حيث لم تتجاوز نسبة نموه 0.15 في المائة نتيجة تراجع أداء القطاع النفطي بسبب انخفاض حجم إنتاجنا النفطي ومن ثم صادراتنا النفطية، إلا أن النشاط الاقتصادي المحلي كان أداؤه جيداً في ضوء تحقيق الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي الحقيقي معدلات نمو إيجابية، وكان من المؤكد أن ينتج عن ذلك تراجع في أداء القطاع غير النفطي لو لم تقم الدولة بزيادة الإنفاق الحكومي.
تقديرات الإنفاق الحكومي في ميزانية عام 2010 البالغة 540 مليار ريال تزيد بنسبة 14 في المائة على تقديرات الإنفاق الحكومي في ميزانية عام 2009 إلا أنها تقل بمقدار عشرة مليارات ريال عن الإنفاق الفعلي لعام 2009، وإذا أخذنا في الحسبان أن الإنفاق الفعلي عام 2009 تجاوز الإنفاق المقدر بنحو 16 في المائة، فإن ذلك يعني أنه من المتوقع أن يصل الإنفاق الفعلي عام 2010 إلى ما يزيد على 600 مليار ريال، وهو ما يظهر عزماً حكوميا على مواصلة مواجهة أزمة المال العالمية من خلال المحافظة على معدلات عالية من الإنفاق الحكومي واستغلالا مثاليا للظروف العالمية لإعادة بناء بنيتنا التحتية وتنفيذ مشاريع مهمة قد يكون الوقت الحالي أفضل وقت مناسب لتنفيذها قبل معاودة معدلات التضخم العالمية ارتفاعها السريع، وهو أمر مؤكد الحدوث في ظل ارتفاع مديونية الحكومات عالميا والضخ الهائل للسيولة الذي اضطرت إليه تلك الدول للمحافظة على استقرار نظامها البنكي.
إلا أن هناك تحديين في غاية الأهمية أمام هذه الميزانية الطموحة: أولهما ضمان تحقيق أعلى كفاءة ممكنة من هذا الإنفاق الضخم بما يضمن تحقيق الغرض منه، فكما وضح في كارثة جدة فإن حجم الإنفاق وحده لا يمكن أن يكون دليلاً ومؤشراً دقيقاً لما يتم تحقيقه على أرض الواقع، كما أن كون معظم الشركات المحلية متخمة حالياً بمشاريع قد تفوق قدرتها بكثير فإنها قد تتقدم للمشاريع الجديدة بأسعار مبالغ فيها ما يزيد من تكلفة المشاريع ويقلل كفاءة الإنفاق الاستثماري الحكومي ويضيع فرصة قد لا تتكرر لإحداث نقلة في مستوى الخدمات العامة وبنيتنا التحتية. ثاني التحديات: هو تحقيق نتائج ملموسة في جهود تحقيق تنمية متوازنة شاملة على مستوى المملكة، وذلك من خلال ضمان تواكب وتزامن جهود مختلف الأجهزة الحكومية ذات العلاقة لتحقيق هذا الهدف، فلا يكفي مثلاً أن ننشئ جامعة في منطقة نائية إذا لم يتزامن مع ذلك جهود تضمن خلق فرص عمل لخريجي هذه الجامعة في المنطقة نفسها بحيث لا يضطروا إلى الهجرة إلى المدن الرئيسة بحثا عن فرص عمل مناسبة، أو أن يكونوا مجبرين على القبول بمستوى متدن من الخدمات العامة مقارنة بما يتوافر في المدن الرئيسة إن هم قرروا البقاء في تلك المنطقة، فهذا الزحف السكاني على المدن الرئيسية يزيد من ضغوط الإنفاق الحكومي في هذه المدن ويسهم في مفاقمة المشكلات التي تعانيها ويترتب عليه تفريغ سكاني في مناطق عديدة في المملكة ومؤشر على الحاجة إلى بذل جهود أكبر حتى ننجح في تحقق تنمية شاملة متوازنة على مستوى المملكة.