الاستثمار الزراعي الخارجي لا علاقة له بأمننا الغذائي
الاعتقاد بأن الاستثمار الزراعي الخارجي يمكن أن يسهم في تحقيق أمننا الغذائي يُظهر فهما مغلوطا لحقيقة المشكلة التي تواجهنا، فهذه الاستثمارات لا يمكن أن تلعب أي دور مهم في تحقيق أمننا الغذائي لسبب بسيط هو أن المشكلة الحقيقية التي أمامنا وأمام العالم أجمع مختلفة تماما عما يسوق له متبنيو الاستثمار الزراعي الخارجي. فالمشكلة ليست نقصا في الكميات التي نحصل عليها من سلع معينة، من ثم لتأمين كامل حاجتنا من تلك السلع يلزم قيامنا بجهد مباشر لإنتاج تلك السلع في بلدان العالم الأخرى، فجميع السلع الأساسية التي نستوردها ونعتبرها مهمة لأمننا الغذائي متوافرة بكميات كافية في السوق العالمية ولا يتوقع في المستقبل المنظور أن يجد من لديه المال اللازم لشرائها أي مشكلة في الحصول عليها، والمشكلة الحقيقية هي ارتفاع أسعار هذه السلع، سواء بسبب ارتفاع أسعارها في السوق العالمية، أو بسبب حالة الاحتكار التي تتصف بها سوقنا المحلية التي جعلت عددا محدودا جدا من التجار يسيطرون على 90 في المائة من واردات المملكة من الأرز. لذا مهما قدمنا من دعم للمستثمرين لإنتاج سلع معينة في الخارج فلن يبيعوا منتجاتهم علينا بسعر يقل عن السعر العالمي لهذه السلعة حتى ولو بهللة واحدة وبالتالي لن تحل المشكلة الحقيقية التي نواجهها، ما يجعل أي دعم للاستثمار الزراعي في الخارج لا يعدو كونه هدرا غير مبرر للمال العام يخدم مصالح خاصة لا أكثر.
وحيث إننا جزء من هذا العالم فإننا دون أدنى شك سنقف مثل غيرنا عاجزين تماما عن إيجاد أي حل لمشكلة ارتفاع تكاليف الغذاء مستقبلا مهما حاول البعض إيهامنا بأنهم يملكون حلولا سحرية تجعلنا في وضع مختلف عن بقية العالم، وسنضطر مثلنا مثل غيرنا إلى تأمين حاجتنا من مختلف السلع وفق سعرها في السوق العالمية مهما ارتفع هذا السعر. فنمو سكان العالم، وارتفاع مستويات المعيشة في عديد من الدول النامية، وتخصيص مساحات أكثر فأكثر لإنتاج الوقود الحيوي، كلها عوامل تشير إلى موجة جديدة من الارتفاع في أسعار السلع الغذائية مستقبلا. بالتالي فأمننا الغذائي لا يمكن أن يتحقق من خلال استثماراتنا الزراعية الخارجية, وإنما من خلال رفع كفاءة استغلال ما يتوافر لدينا من موارد في بلادنا، فنولي مشكلة استنزاف المياه اهتماما أكبر، ونحرص على استغلال القليل المتوافر منها في إنتاج السلع الزراعية التي تستهلك أقل ما يمكن من المياه، ونضع ضوابط مشددة على استخدام المياه في الري، ولا نتهاون في سن القوانين التي تحقق أقصى درجة من الكفاءة في استخدام المياه دون أدنى محاباة لمجموعات الضغط المستفيدة من استمرار هذا الهدر بدعوى أن ذلك سيؤثر سلباً في القطاع الزراعي أو غير ذلك من ادعاءات لا تخدم إلا مصالح أصحابها. كما يمكننا ضمان توافر السلع الأساسية في المديين القصير والمتوسط من خلال بناء مخزون استراتيجي يكفي حاجة البلاد من عدد من السلع الأساسية لأطول فترة ممكنة وفقاً لظروف التخزين المناسبة لكل سلعة, وذلك تحسباً لحدوث أي مشكلة في تأمينها في المدى القصير بسبب كارثة طبيعية أو غير ذلك من أحداث مؤقتة.
إلا أن أهم ما يمكننا القيام به للتعامل مع مشكلة الغذاء العالمية وتحقيق أمننا الغذائي هو معالجة مشكلة عدم قدرة سياساتنا الاقتصادية على تحقيق معدلات نمو اقتصادي تتناسب مع ما نتمتع به من أوضاع مالية جيدة يفترض أن تكون كفيلة بتحقيقنا معدلات أعلى من النمو الاقتصادي ومستويات معيشة أفضل لأفراد مجتمعنا. فعندما ترتفع معدلات التضخم بنسبة 10 في المائة فإن هذا الارتفاع يكون مشكلة لمن ارتفع دخله بنسبة تقل عن معدل التضخم، أما من ارتفع دخله بنسبة أعلى فسيكون مستوى معيشته قد تحسن حتى مع هذا المعدل العالي من التضخم, ما يعني أن قدرتنا على تجاوز أي مشكلة تواجهنا بسبب حدوث ارتفاع كبير في أسعار الغذاء عالميا لا يعتمد مطلقا على كمية ما نستطيع إنتاجه من تلك السلع محليا أو خارجيا, وإنما يعتمد فقط على قدرتنا على تحسين مستويات دخل المواطن، حيث يصبح قادراً على المحافظة على مستويات عالية من المعيشة حتى لو ارتفعت معدلات التضخم وارتفعت تكلفة السلع الغذائية الأساسية التي يستهلكها، فسنغافورة ليس لديها مشكلة أمن غذائي ليس لأنها تنتج حاجتها من الغذاء, وإنما لأن معدل دخل سكنها واحد من أعلى المعدلات في العالم, ولا يعاني سكانها فقرا أو بطالة. فمن خلال تحقيق تنمية شاملة تحقق مستويات عالية من النمو الاقتصادي وتمس المواطن بشكل مباشر يرتفع دخله بما يمكنه من تأمين حاجاته الأساسية مهما ارتفعت أسعارها ونصبح كمجتمع أكثر قدرة على مواجهة ارتفاع تكلفة الغذاء عالمياً، وعلينا أن ندرك أن معدلات التضخم العالمية مرشحة للارتفاع بقوة ولن يحمينا من تأثيرها السلبي تبني أفكار لا تخدم إلا مصالح أصحابها، وعلى رجال الأعمال الذين يرغبون في الاستثمار في الزراعة الخارجية أن يقوموا بذلك وفق معايير تجارية بحتة دون الادعاء أن ذلك يمثل خدمة للوطن، فسنكون مشترين لمنتجاتهم كغيرنا في العالم, ولن نتوقع منهم أن يبيعوها علينا بسعر أقل، كما يجب ألا يتوقعوا منا أن نمول استثماراتهم الخاصة لمجرد ادعائهم بأنها ستخدم أمننا الغذائي.