تدني فاعلية الإنفاق الحكومي في المملكة (1 من 2)
المملكة والصين كانتا من بين دول العالم الأكثر قدرة على تجاوز آثار أزمة المال العالمية بفضل ما تملكانه من فوائض مالية تمنحهما القدرة على المحافظة على أداء إيجابي لاقتصاديهما حتى في ظل هذه الأزمة التي عصفت بالاقتصاد العالمي، فالصين من خلال زيادة الإنفاق الحكومي على البنية التحتية تستطيع أن تعوض التراجع الكبير في صادراتها، وبالتالي تحافظ على مستويات عالية من الطلب الكلي تضمن معه مواصلة اقتصادها تحقيق معدلات نمو مرتفعة، والمملكة يعتمد اقتصادها بشكل أساس على أداء القطاع الحكومي، وأزمة المال العالمية ترتب عليها تراجع في أسعار السلع الأولية وفي تكاليف المشاريع، ما أوجد فرصة ذهبية لمعالجة الضغط الكبير الذي تعانيه بنيتها التحتية، في الوقت الذي تسهم فيه زيادة الإنفاق الحكومي الاستثماري في محافظة الاقتصاد السعودي على أداء إيجابي.
الملاحظ أن النتائج المتحققة من خطتي التحفيز اللتين تم تبنيهما في البلدين لم تكونا متماثلتين، ففي حين يتوقع أن يكون الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للصين قد حقق نمواً في عام 2009 تصل نسبته إلى 9 في المائة، فإن معدل نمو ناتجنا المحلي الإجمالي الحقيقي لم يتجاوز 0.15 في المائة. هذا بالرغم من حدوث نمو كبير في الإنفاق الحكومي الفعلي خلال عام 2009، حيث تجاوز هذا الإنفاق المقدر في الميزانية بنسبة 16 في المائة وتجاوز الإنفاق الفعلي لعام 2008 بنسبة بلغت 8 في المائة، وهذا الانخفاض في معدل نمو الاقتصاد السعودي يملي دون أدنى شك تدنيا حادا في كفاءة وفاعلية الإنفاق العام في المملكة بصورة تجعل من الضروري جدا إجراء مراجعة شاملة سريعة لسياساتنا الاقتصادية وإجراءات الرقابة على الإنفاق العام.
فالملاحظ أن التحسن الهائل في أوضاعنا المالية تبعاً للارتفاع المستمر في أسعار النفط الخام منذ أوائل العقد الأول من هذا القرن وما تبعه من نمو كبير في الإنفاق الحكومي كان له تأثير محدود في معدلات نمو اقتصادنا الوطني، وكان إسهامه هامشيا في معالجة معظم المعضلات الاقتصادية التي نعانيها. فرغم أن الإنفاق الحكومي ارتفع بين عامي 2003 و2009 بنسبة 114 في المائة، حيث وصل في 2009 إلى 550 مليار ريال بعد أن لم يكن يتجاوز 257 مليار ريال في 2003، إلا أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للمملكة لم تتجاوز نسبة نموه خلال الفترة نفسها 35 في المائة، فمعدل النمو الاقتصادي في عامي 2006 و2007 لم يتجاوز في الواقع 3.2 و3.3 في المائة على التوالي، وكان أعلى معدل نمو حققه الاقتصاد السعودي خلال هذه الفترة في عام 2005، ومع ذلك لم يتجاوز هذا المعدل 5.5 في المائة. بالتالي فإن مشكلاتنا الاقتصادية التي تفاقمت خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي لم يسهم تحسن أوضاعنا المالية في حل أي منها، فمشكلة البطالة لم تحل وعدد العاطلين والعاطلات عن العمل في تزايد مستمر، ومشكلة الفقر في تفاقم، كما يظهر من النمو الكبير في عدد المستحقين لمعونات الضمان الاجتماعي ونسبة المعتمدين على هذه المعونة كنسبة من إجمالي عدد السكان، والمشكلة الإسكانية تزداد حدتها عاماً بعد آخر بشكل يجعل من شبه المستحيل لمعظم الشباب أن يكون في مقدورهم امتلاك منزل مهما كان هذا المنزل متواضعاً في ظل الارتفاع الهائل في أسعار الأراضي التي جعلتها في غير متناول كثير من أفراد المجتمع.
ولعل خير دليل على هذا التدني في كفاءة وفاعلية الإنفاق العام في المملكة رد وزارة المالية الذي قالت فيه إن ما اعتمد لمحافظة جدة لمشاريع الصرف الصحي ومشاريع تصريف الأمطار في محافظة جدة هو الأعلى على مستوى مدن المملكة بما في ذلك العاصمة الرياض، ومع ذلك لم يستطع كل هذا الإنفاق إلا تغطية 7 في المائة من احتياجات محافظة جدة من هذه المشاريع، رغم أن ما تم صرفه من مبالغ يمكن أن يكفي في بلدان أخرى في العالم لإقامة أفضل شبكة تصريف في مدن عدة وليس 7 في المائة من مدينة واحدة، وهو ما يظهر غيابا تاما للرقابة على الإنفاق العام، كان من الطبيعي جداً أن يترتب عليه وجود بيئة خصبة لتفشي الفساد الإداري والمالي، والمسؤولية عن ذلك لا تقع فقط على الجهة التي يحدث فيها هذا التلاعب في المال العام وإنما يقع أيضا على كل جهاز معني لم يكلف نفسه عناء التأكد من حقيقة ما يتم إنجازه لقاء ما يتم صرفه من مبالغ طائلة. وننفق على التعليم ما يزيد على 25 في المائة من الإنفاق الحكومي كل عام، ومع ذلك لا يرى أي أثر لهذا الإنفاق الهائل، فتأهيل مواردنا البشرية في تدن مستمر، ومخرجات نظامنا التعليمي ليست بأحسن حال من مخرجات التعليم في أكثر بلدان العالم تخلفا وفقرا، وما زال معظم فصول مدارسنا مكتظة بالطلاب والطالبات. ومع ذلك نتقبل بكل صدر رحب هذا الوضع المزري لنظامنا التعليمي، ولا نسأل عن الأسباب التي أدت إلى وصولنا إلى هذا الوضع رغم كل ما تغدقه الدولة من موارد على هذا القطاع الذي يفترض أن يصبح معه نظامنا التعليمي واحداً من أكثر الأنظمة التعليمية في العالم كفاءة، لا أن يحدث العكس.
ترى ما أسباب هذا التدني الهائل في فاعلية إنفاقنا العام؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في المقال التالي.