أسطورة الودائع البنكية وحقيقتها بين عصر الذهب وعصر الفلوس

استغلت الأيديولوجية الاشتراكية الهالكة حقد الفقير على الغني والناشئ من ظلم الغني للفقير في عصر الإقطاع. فروجت أساطير لا حقيقة لها حول الأنظمة البنكية التي هي عماد النظام المالي في الاقتصاد الرأسمالي. واستفادت الرأسمالية من هذه الأساطير بأن حرصت على تغيير كل وضع يمكن للغني استغلاله في ظلم الفقير، كما منعت الفقير من ظلم الغني. فتطورت الرأسمالية عبر العقود لأنها اعتمدت على الحقائق المتغيرة، بينما هلكت الاشتراكية التي انشغلت بترويج الأكاذيب والأساطير. ومن الأساطير التي حبكتها الأيديولوجية الاشتراكية، أسطورة ديناميكية عمل الودائع البنكية في النظام البنكي الرأسمالي. أسطورة تخلى عنها أربابها وتلقتها بقايا الشيوعيين في الغرب والشرق ورددها كذلك للأسف وبحسن نية كثير من أفراد العالم الإسلامي وبنوا عليها أحكام معاملاتهم.
أسطورة الودائع تدور حول أن الوديعة البنكية هي كنزٌ لأموال الأغنياء وحرمان الاقتصاد منها، بينما حقيقتها عكس ذلك تماما. فهي سحب لأموال الأغنياء من السوق في حالة طفراته لكيلا تحدث الفقاعات السعرية التي تتبعها انهيارات اقتصادية. بينما تطرد الوديعة أموال الأغنياء فلا تقبلها عند حاجة الاقتصاد لها، وكل ذلك يتم عن طريق رفع سعر الفائدة في حالات النمو المتسارع وتخفيضها في حالات انخفاض مستوى النمو.
تحكي الأسطورة - أسطورة الودائع البنكية - بأن الأغنياء يعطلون التحرك الاقتصادي والنمو في المجتمع بإيداعهم لأموالهم في ودائع بنكية تعطي الفوائد والربح على رؤوس الأموال من غير جهد يبذله الأغنياء أو مخاطرة تذكر. والعجيب أن هذه الأسطورة لم تتأمل لحظة في دوافع البنوك لإعطاء هذه الفوائد على الودائع. فهل يتصور عاقل أن البنك يدفع الفوائد على هذه الأموال من أجل التغزل بها والتمتع بالنظر إليها مكدسة في خزائنه. ألم تتساءل هذه الأساطير لم يرفع البنك المركزي الفوائد حينا ويخفضها حينا آخر. هل البنك المركزي يريد القضاء على الاقتصاد برفع الفوائد محاباة للأغنياء.
البنك يقدم التمويلات من رصيده من الودائع، فأسعار الفوائد على التمويلات أساسها أسعار الفوائد على الودائع. وحكاية تحديد أسعار الفوائد على الودائع تختلف اختلافا جذريا بين عصر الذهب وبين عصر الفلوس المعاصرة. ففي عصر الذهب كانت ديناميكية أسعار الفوائد آلية محضة تحكمها سوق الإنتاج الحقيقي.
فحقيقة سعر الفائدة على الودائع أساسه - قديما وحديثا - هو عوض عن الفرصة الضائعة من عدم الاستثمار في الأموال المودعة. ففي فترات ازدهار النشاط الاقتصادي تكثر الفرص الاستثمارية وترتفع عوائدها فترتفع الفائدة بارتفاع فوات الفرصة من عدم الاستثمار بهذه الأموال والعكس صحيح. ففي فترات النمو يرتفع الطلب على التمويلات ويقل عرضها بتناقص الراغبين في إيداع أموالهم في البنوك. فلا يودع في البنك إلا العاجز - فنيا أو نفسيا - عن استثمار أمواله في بناء الاقتصاد. فمن أجل ذلك تبدأ الفائدة في الارتفاع تدريجيا في عصر الازدهار الاقتصادي مع تزايد الطلب على التمويلات ومع نقص الودائع - التي هي أساس توليد الأموال - فيشكل هذا قيدا أوتوماتيكيا في عصر الذهب على الطفرات الإنتاجية فيمنع من ارتفاع الأسعار وهذه فائدة عصر الذهب. ولكن الذهب لا عقل له فهو لا يراعي الظروف والكوارث الطبيعية أو السوقية. فعند تقهقر الاقتصاد - لسبب من الأسباب الكثيرة لا محل لذكرها هنا - لا يستطيع بعض المستثمرين من تسديد المستحقات والتي هي في أساسها ودائع بنكية للغير. فيفلس البنك مع تزاحم المودعين على البنك لاسترداد ودائعهم. وحتى ولو أن البنك لم يولد الأموال بالإقراض بل أقرض عين الودائع نفسها، فإن مجرد الانحسار الاقتصادي يحدث الفوضى والخوف ويطالب أهل الودائع بودائعهم ولن يحصل بعضهم عليها. فيدخل الاقتصاد في هاوية انعدام السيولة لفترة طويلة حتى يستطيع المجتمع الاقتصادي تعويض خسائر الذهب الضائع في الاستثمارات التي فشلت أو عُطلت وجُمدت وتوقفت عن الإنتاج. وبما أن الذهب محدود فستطول وتسوء الحالة الاقتصادية حتى يتوافر الذهب من جديد وحتى يعوض المجتمع العقول الاستثمارية التي غُيبت في السجون بسبب إفلاسهم.
وجاء عصر الآلة فتزايد الإنتاج بوتيرة أسرع من تزايد الذهب، وهذا سيؤدي حتما إلى انخفاض الأسعار وخسران المستثمر. وعليه فقد أصبح انهيار الاقتصاد حتميا لا مفر منه في عصر الآلة وسيحدث على فترات متقاربة. فكان البحث عن آلية أخرى تحكم أسعار الفوائد ضرورة ملحة لحفظ الأموال والمجتمع الاقتصادي. في عصر الذهب لا يستطيع البنك المركزي التحكم في أسعار الفائدة. فهو لو أعلن تخفيض سعر الفائدة فلن يُستجاب له. فالبنوك في نظام حر سيحكمها سوق العرض والطلب بين الودائع والتمويلات. ومن هنا فرضت الفلوس المعاصرة الاعتبارية - التي هي من غير غطاء حقيقي - نفسها على النظام المالي. فهذه الفلوس تُضخ وتُسحب بمجرد الشطب والإضافة في السجلات الحسابية. وأصبح البنك المركزي على المدى القصير - حتى خمس سنوات أو أكثر أحيانا - هو المتحكم الأوحد فيها مما يعطي فرصة للمجتمع الاقتصادي بتصحيح أخطاء تسارع الطفرات الاقتصادية في ظل تزويد السوق المالية بنوع من الأمان كي يضمن استقرارها. ومن كان يدرك ذلك عرف وتحدث بثقة بأن الأزمة المالية الحالية يستحيل أن تصبح مثل الكساد العالمي الذي حصل في عصر الذهب رغم ضخامة الثروات التي ضاعت في هذه الأزمة والتي قُدرت أخيرا بـ 30 تريليون دولار. وعلى كل حال فعلى المدى الطويل - من خمس سنوات فأكثر- فإن سوق الإنتاج الحقيقي هي التي ستحدد نمو الاقتصاد أو عدمه ومن ذلك استمرارية قوة العملة أو ضعفها.
قرار البنك المركزي في رفع الفائدة أو خفضها - على الودائع ومن ثم على الإقراض - ينبع من استباقه لحالة الاقتصاد الحقيقي للدولة من أجل منع الطفرات والانهيارات الاقتصادية. فالدراهم مراهم عند البنك المركزي يبذلها بسخاء عند ضعف الاقتصاد لكيلا يهلك جوعا ويسحبها إذا بدأت تضر به قبل أن يمرض بالتُخمة. ففي الدولة المعومة عملتها، يقوم البنك المركزي بخفض أسعار الفوائد تدريجيا عند وجود أي دلائل انحسارية لنمو الاقتصاد ويصاحب إعلان خفض الفائدة ''طبع'' ضخ الفلوس في النظام المالي عن طريق شراء السندات الحكومية فتزداد السيولة عند البنوك مما يجبر البنوك على تخفيض الفائدة على التمويلات لتصريف ما عندها من السيولة فيتحرك الاقتصاد. فإذا تزايدت السيولة ''الفلوس'' بمستوى أكبر من مقدرة الإنسان والآلة والتكنولوجيا على الإنتاج فإن ذلك سيؤدي إلى تضخم صوري في الأسعار (تُخمة) فيبدأ البنك المركزي برفع أسعار الفائدة ليودع الناس فلوسهم في البنوك فيخرجونها من الاستثمار في اقتصاد قد أصبح لا يستطيع استيعابها. وسيقوم البنك المركزي حينها بدور المقترض لهذه الودائع بسحب هذه الودائع من البنوك وإخراجها من النظام المالي عن طريق بيع السندات الحكومية التي ستدفع سعر الفائدة المرتفع الذي يدفعها البنك للمودعين. إذن فالوديعة البنكية هي مجرد صمام للسيولة المالية. كانت تتحكم به في عصر الذهب اليد الخفية للسوق - العرض والطلب -. ثم أصبح البنك المركزي في عصر الفلوس الرقمية هو المتحكم في هذا الصمام.
وهذه الديناميكية تنطبق أيضا على الدول المرتبطة عملتها بعملة أخرى، إلا أن هناك هدفا إضافيا ينظر إليه البنك المركزي في الدولة المرتبطة عملتها بغيرها ألا وهو المحافظة على سعر الصرف المعلن. وأنا هنا لن أتحدث عن الاقتصاديات القوية كالسعودية بل عن الاقتصاديات الضعيفة لأنها هي الوتر الذي تضرب عليه الأسطورة لتروج نفسها. فقد تكون هناك استثمارات يحتاج إليها المجتمع الاقتصادي الضعيف، ويكون هناك أيضا آلة وإنسان متوافران لإنجاز هذه الاستثمارات من دون أن يحدث تزاحم على الموارد ويبقى فقط الحاجة للتمويل، ومع ذلك فالبنك المركزي يرفع أسعار الفوائد لمنع التمويلات. وفي هذه الحالة يكون هدف تثبيت سعر الصرف للعملة المحلية للدولة هو الهدف الاستراتيجي والغالب على قرارات البنك المركزي. وهو لا يفعل ذلك عبثا بل لأن العملة المحلية هي عملة ضعيفة والدولة منفتحة على العالم الخارجي والناس قد ضعفت ثقتهم بالعملة المحلية - بسبب ديون الدولة أو فسادها أو سوء تاريخ عملتها- مما يدفع الناس إلى تبديل ما يحصلون عليه من عملة محلية بعملات أجنبية. فلو خفض البنك المركزي سعر الفائدة من أجل طرد الودائع وضخ الأموال من أجل التوسع في المشاريع - ولو كانت مواردها محلية - فستكثر السيولة بالعملة المحلية في داخل المجتمع، وسيبدأ الناس باستبدالها بالعملات الأجنبية ولو من غير حاجة استيراد أو نحوه ولكن بحثا عن الأمان، وسيعجز البنك عن استبدالها بالعملات الأجنبية فتنهار العملة المحلية ويتبع ذلك ما يتبعه من أضرار عظيمة على الاقتصاد الضعيف أو الناشئ لأسباب كثيرة لا مكان هنا لذكرها. لذا فحتى في هذه الدول الفقيرة يعمل البنك المركزي على رفع أسعار الفوائد على الودائع لمنع أموال الأغنياء من الاستثمار في المجتمع من أجل الحفاظ على المجتمع. فأين أسطورة الوديعة البنكية من هذه الحقائق. وهذا سيقودنا إلى أن التكييف الشرعي للوديعة البنكية من أجل استنباط الحكم الشرعي يجب أن ينبني على صحة تصورها حقيقة بعد تخليص هذا التصور مما شابه من المفاهيم الاشتراكية أو مفاهيم عصر الذهب والتي صورت المسألة بشكل خاطئ، وهذا له حديث قادم - إن شاء الله تعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي