تدني فاعلية الإنفاق الحكومي في المملكة (2 من 2)
ذكرت في المقال السابق أن هناك تدنيا واضحا في فاعلية الإنفاق الحكومي في المملكة يتجلى في محدودية تأثير النمو الكبير في الإنفاق الحكومي في معدلات النمو الاقتصادي وهامشية مساهمته في حل مشكلاتنا الاقتصادية التي قد تكون ازدادت حدتها رغم كل هذا التحسن في أوضاعنا المالية، هذا يعود إلى أسباب عديدة أهمها التالية:
1- إن سياساتنا الاقتصادية بقيت جامدة وغير مواكبة للتغيرات التي حدثت في هيكلية اقتصادنا الوطني، ما حد من فاعليتها في علاج مشكلاتنا الاقتصادية. فتضخم الجهاز الحكومي وعدم قدرته على استيعاب معظم الداخلين الجدد لسوق العمل مثلا كان يتطلب سياسات اقتصادية محفزة لخلق فرص عمل للعمالة المواطنة في القطاع الخاص، إلا أن هذا لم يحدث مطلقا، حيث فشلنا في إعادة صياغة سياساتنا الاقتصادية بما يتناسب مع واقعنا الاقتصادي الحالي الذي أصبح أكثر تعقيداً، فبقيت هذه السياسات نسخة كربونية لمثيلاتها في سبعينيات القرن الماضي، ما أسهم في زيادة معدلات البطالة وتدني مستويات أجور الداخلين الجدد إلى سوق العمل، الأمر الذي ترتب عليه زيادة في معدلات الفقر واتساع في شريحة غير المستفيدين من تحسن الأوضاع المالية للدولة.
2 - إن ملكية الدولة للموارد التي يأتي على رأسها النفط والغاز تعني هيمنة مطلقة للإنفاق الحكومي على النشاط الاقتصادي وعملية التنمية الاقتصادية، ما يجعل من الضروري جداً وجود جهاز مركزي للتخطيط مستقل تماما عن الجهاز التنفيذي للدولة، على غرار مجلس التنمية الاقتصادية في سنغافورة، يستهدف تحقيق أعلى كفاءة ممكنة في توجيه الموارد من خلال وضع خطط شاملة ملزمة يُعهد إلى الأجهزة الحكومية مسؤولية تنفيذها، ويكون من ضمن مسؤوليات هذا الجهاز مراقبة أداء هذه الأجهزة، والتأكد من أنها جميعاً ودون استثناء تؤدي مهامها بكفاءة، بحيث يتم تصحيح أي خلل حال وقوعه وقبل تفاقمه وتسببه في إعاقة جهود التنمية. وفي ظل ضعف الدور التخطيطي لوزارة الاقتصاد والتخطيط الذي لا يتعدى تلقي مقترحات الأجهزة الحكومية لتدمجها في كتاب الخطة الخمسية، وبما أن المجلس الاقتصادي الأعلى بصيغته الحالية ربما لم يقدم ما نتطلع إليه من دور حيوي إذ يفترض أن يكون جهازا تخطيطيا تكنوقراطيا مستقلا تماماً عن الجهاز التنفيذي للدولة، كما هو حال أجهزة التخطيط الاقتصادي التي أثبتت نجاحها في عديد من دول العالم، فقد افتقر التخطيط الاقتصادي في المملكة إلى الشمولية والرؤية الواضحة التي تمتلك أهدافا محددة بدقة، وضعفت الرقابة على عملية التنمية وأصبحت تحت رحمة كفاءة القائمين على الأجهزة الحكومية، ما جعلها بالتالي مفتقرة للتناغم والتكامل الذي يضمن نجاحها وفاعليتها في تحقيق أهداف محددة.
3 - بسبب غياب جهاز تخطيط مركزي يتولى مراقبة أداء الأجهزة الحكومية ومدى تنفيذها ما يتعلق بها ضمن هذه الخطة أصبح هناك تفاوت كبير في أداء الأجهزة الحكومية وفق مزاجية وقدرة من يديره، فتجد جهازاً عالي الكفاءة وآخر لا يكاد ينجز شيئا، وجهازا تجد أن مشاريعه تنفذ دون تأخير وآخر تتعثر مشاريعه ولا تكاد تنتهي، وكان الأفضل في ظل غياب جهة تراقب أنشطة هذه الأجهزة أن يتم إنشاء جهاز حكومي يتولى الإشراف على تنفيذ مختلف المشاريع الحكومية وتتفرغ الأجهزة التنفيذية لأداء أعمالها التنفيذية فقط.
4 - هناك دور كبير نافذ لوزارة المالية على كل ما يتعلق بتخصيص الموارد وتحديد الاعتمادات المالية للجهات الحكومية مع عدم تفعيل لدور وزارة الاقتصاد والتخطيط التي يفترض أنها هي التي تحدد تخصيص الاعتمادات المالية وليس وزارة المالية، ما يجعل هذه الاعتمادات في معظم الأحيان لا تمت بصلة إلى خطط التنمية الخمسية، وليس هناك أي جهاز معني بالرقابة على كفاءة ما يتم صرفه، وأصبح ما يخصص لجهاز حكومي من اعتمادات مرتبطا بقدرة مسؤولي الجهاز على تطوير العلاقة مع وزارة المالية أكثر من ارتباطه بما يفترض أن تنفذه هذه الجهة ضمن خطة التنمية، وأصبح كل جهاز حكومي، كي يضمن زيادة اعتماداته في العام المقبل، يحرص على صرف كل ما اعتمد له هذا العام، فالمهم أن تصرف ما خصص لك لا بالضرورة أن تحقق أي كفاءة فيما صرف لك.
5 - ليس هناك آلية موضوعية واضحة ومعايير تساعد على اختيار القيادات الإدارية في الدولة ومن ثم في تقييم أدائهم، ومن المعروف أن أحد أبرز أسباب تفشي الفساد في البلدان النامية، وخاصة الغنية بالموارد الطبيعية، هو تدني مستوى كفاءة وفاعلية القيادات الإدارية في الأجهزة الحكومية نتيجة وفرة الموارد وعدم وجود حاجة ملحة لتحقيق أداء عالي الكفاءة، ما يوجد بيئة يستشري فيها الفساد ولا تساعد على محاسبة المقصر ومكافأة المجد. ويصبح ما يتحقق من أداء، مهما كان متواضعا مقبولا ولا يعتقد أن بالإمكان تحقيق أفضل منه، أو أن لهذا القصور في الأداء دورا في حدوث مشكلة كان من الممكن تفاديها لولا افتقار القائمين على الجهاز لروح المبادرة والقدرة على اتخاذ القرارات الجريئة في الوقت المناسب واهتمامهم المفرط بمصالحهم الشخصية حتى لو تعارضت بشكل سافر مع المصلحة العامة وكفاءة وفاعلية الجهاز الذي يديرونه. لذا فنحن في أمس الحاجة إلى مراجعة المعايير الذي يتم على أساسها اختيار القيادات الإدارية في الأجهزة الحكومية، الذي تسبب في تدني أداء أجهزة تنفق عليها الدولة بكل سخاء، وتُوفر لها مختلف الإمكانات التي كان من المفترض أن تعينها على أداء مهامها، لو واكب ذلك قيادات إدارية كفؤة.
6 - إن لعقود الباطن دورا رئيسا في رداءة تنفيذ المشاريع الحكومية، حيث تستغل بعض الشركات علاقاتها في الحصول على مشاريع لا تنوي تنفيذها بنفسها وإنما تأخذ نصيبها من الكعكة وترسي كامل أو معظم أعمال المشروع من الباطن على مقاول آخر، وفي أحيان كثيرة يرسى المشروع من الباطن مرات عديدة، حيث تصبح قيمة عقد المقاول الذي يقوم بالتنفيذ الفعلي للمشروع لا تعادل إلا جزءا ضئيلا من القيمة الأساسية للمشروع، ما يجعل نوعية التنفيذ متناسبة مع هذه القيمة المتدنية وليس مع القيمة الأساسية للمشروع وما يتسبب في إعاقة كثير من المشاريع وتأخر استكمال تنفيذها.
لقد آن الوقت لإجراء مراجعة سريعة وحازمة لمجمل هيكلية سياساتنا الاقتصادية وأسلوب إدارتنا لاقتصادنا وأن نعيد حساب أولوياتنا بما يخدم مصالحنا الوطنية وفق مفهوم شامل طويل المدى يعي أن هذه الأوضاع العجيبة التي نعانيها غير مبررة ولا يمكن استمرارها دون أن ندفع ثمناً باهظاً لها.