دكاترة «الغفلة»

أصبح الحديث واسعاً ولاذعاً جداً حول ظاهرة سهولة الحصول على لقب «دكتور» كسهولة الحصول على علبة صلصة أو ورق من أي دكان، كما قال الأستاذ محمد عمر العامودي في عموده الأسبوعي ساخرا في جريدة «المدينة» بتاريخ (27 – 1 – 1431هـ)، فلم يعد مستغربا اليوم أن يقدم لك أي شخص نفسه بأنه الدكتور فلان، فهذا اللقب العلمي المرموق بات أكثر من الهم على القلب، وينافس وبقوة كل الألقاب الشرفية المجانية في مجتمعنا، والفضل في ذلك يعود إلى ما سماه الأستاذ العامودي بدكاكين منح الشهادات، التي انتشرت كانتشار مطاعم الشاورما والهمبرجر، ولو لم يكن الحصول على لقب الدكتور بهذه السهولة، لما انتشر وأصبح كل متطلع إلى مركز مرموق ومنصب أعلى، يحصل عليه بين ليلة وضحاها، ودون أن يبذل جهدا أو يتحمل معاناة البحث والدرس وسهر الليالي، فبمجرد أن يدفع يحصل على المؤهل.
هذه القضية ليست جديدة، فقد تداولها الكثيرون وأصبحت حديث مجالس، وما لفت النظر إليها في السنوات الـ 15 الأخيرة تقريبا، هو تكاثر حملتها وخصوصا بين موظفي الدولة تحديدا، وهو ما دفع إلى وضع علامات استفهام كبيرة حول جودة وجدارة الحصول على مثل هذه الشهادة العالية، ومدى أحقية حصول من حملها بتلك الطريقة «المبسترة» على مميزات وظيفية واجتماعية.. ؟!!
حقيقة، تنبهت لذلك عدة جهات، ومنها وزارة التعليم العالي، حيث بات الأمر محل مراجعة وتدقيق وتثبّت، إلا أن الأمر يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك، يحتاج بالفعل لمراجعة أحقية وجدارة كل من بات يحمل لقب دكتور «الغفلة»، خاصة لمن هم على رأس العمل في أجهزة الدولة الذين باتت كثرتهم محل ملاحظة في السنوات الأخيرة، ولسنا هنا أمام تزوير شهادة، بل تزوير علم ومعرفة، فشهادة الدكتوراه لم تعد متطلباتها لمن يريدها للوجاهة أو لمميزات وظيفية، صعبة ومرهقة، فالجميع يعلم ويعرف كيف يمكن الحصول عليها ومن جامعات معترف بها وهو يمارس عمله وجالس في بلده ليفاجئ بها زملاءه.
إن محاربة ومحاصرة هذه الظاهرة تتطلب إلى جانب المراجعة، وضع معايير وقواعد واشتراطات صارمة ودقيقة خاصة للموظفين ممن هم على رأس العمل، الذين يسعون إلى رفع مستواهم العلمي قبل الوظيفي، وذلك أولا بما يتوافق مع حاجة العمل، وثانيا جدية الدراسة الفعلية، فما قيمة مؤهل علمي كبير كالدكتوراه يحصل عليه عن بحث يستعرض تاريخ الوزارة مثلا ..؟!!
أتصور أن مواجهة هذا الجانب من التزوير العلمي هو جزء من محاربة الفساد بكل أوجهه، سواء كان ماليا أو إداريا، فحين يتقدم الصفوف ويعتلي المناصب أشخاص لمجرد أنهم جلبوا شهادات دكتوراه من إياها، ويصبحون ممن يولون مسؤوليات ويديرون شؤونا عامة.. فماذا ننتظر من نتائج ..؟، من المؤكد أنها سوف تأتي دون المأمول، ففاقد الشيء لا يعطيه، والشاهد على ذلك أن جميع القطاعات تعج بحملة الدكتوراه، ولم نلمس حلولا ولا إنجازات إلا كلاما منمقا وتنظيرا فارغاً.
حقيقة، إن محاصرة ظاهرة هذه «الدكترة» المضروبة، التي لو استمرت على المنوال نفسه فسوف نحقق من خلالها رقما قياسيا في موسوعة «جينيس» كأكثر الشعوب حصولاً على شهادات الدكتوراه، وتحديد الحصول عليها بمعايير دقيقة وصارمة، ضرورة لحماية وضعنا العام من مثل هذا الفساد العلمي الذي استشرى بكل أسف، والذي أضر بسمعة هذا المؤهل العلمي وجعله دارجا إلى حد فقده القيمة، وهذا ما دفع كثيرا من حملة هذا المؤهل الحقيقيين للامتناع عن تعريف أنفسهم في الأماكن العامة بلقب «دكتور»، فيما يقلب دكاترة الغفلة الدنيا حين تدعوه باسمه المجرد من دكتور.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي