«الطيار» نقطة تحول في اكتتابات السوق المالية
فجأة توقف الزمن في تاريخ السوق المالية السعودية ليعلن إقدام الشركات الاستثمارية على خطوة لم يسبق لها مثيل، لقد امتنعت الشركات عن بناء سجل الأوامر، وبالتالي لأول مرة لا تتم تغطية اكتتاب طرح أولي في السوق المالية السعودية، حيث لم تتم تغطية الاكتتاب في مجموعة الطيار إلا بنسبة 67 في المائة من قبل الشركات الاستثمارية! وبعيداً عن ''الطيار'' وبعيداً عن التحليلات المالية والفنية للحدث ولما وراء الحدث, ففي رأيي, أن حادثة ''الطيار'' ستثري السوق المالية وتسهم في تنوع وقائعها وتعطي خبرة أكبر للهيئة والشركات والمتداولين، وتصنع سوابق تستفيد منها السوق المالية ككل، ما يزيد من نضج السوق.
هل سبب عدم تغطية الاكتتاب هو الشركة ''مجموعة الطيار''؟ أم أن السبب ''التسعير''؟ أم يكمن السبب في ''آلية بناء سجل الأوامر''؟ أم أن هناك سببا آخر؟ سأجول في هذا المقال مع هذه الأسئلة للوصول إلى السبب الأكثر احتمالاً لعدم التغطية، وهل يعد إيقاف الاكتتاب في مجموعة الطيار شهادة لآلية التسعير أم ضدها؟ وأخيراً هل المصلحة في إدراج الشركة في السوق أم لا؟
أولا: مجموعة الطيار
لا شك في أن مجموعة الطيار شركة قديرة لها تاريخها حيث أسسها الدكتور ناصر الطيار كأحد رواد الأعمال من لا شيء، ونجح في خلق منظومة متجانسة من الشركات الخدمية واللوجستية التي تصب في خدمة الطيران، وحققت الشركة عديدا من القفزات من حيث المبيعات والأرباح، ونجحت قبل سنوات في استقطاب مجموعة من الشركاء البارعين في مجال الاستثمار، شكلوا فيما بعد مجلس إدارة من الدرجة الأولى ، إذن لا غبار على المجموعة من حيث التاريخ والنتائج وتشكيلة الشركاء والإدارة، كما أن الشركة ستكون الشركة الأولى في خدمات الطيران، ما يعني التنويع في السوق المالية السعودية، وستكون إضافة مهمة لقطاع النقل.
ثانيا: التسعير
لقد حددت نشرة الاكتتاب نطاقاً سعرياً يبدأ بـ 45 ريالا وينتهي بـ 50 ريالاً، وأعتقد جازماً أن السعر كان نقطة رئيسة في اتخاذ قرار الاكتتاب من عدمه، فالشركات الاستثمارية تقيس أولاً وأخيراً إمكانية تحقيق الأرباح من بيع الأسهم بعد إدراج السهم، والسعر المطروح كان مبالغاً فيه ولم يكن مغرياً بأي حال من الأحوال لشركات الاستثمار .
ثالثا: آلية بناء سجل الأوامر
لا شك في أن آلية بناء سجل الأوامر إحدى الطرق المعتمدة في تسعير الشركات للاكتتاب العام، وتعد طريقة عادلة من وجهة نظر كثير من المحللين والسلطات المنظمة، ورغم النقد العنيف الذي تعرضت له هذه الآلية (وأنا أحد المنتقدين لها) إلا إنها اليوم كانت العنصر الأساسي في خنق اكتتاب ''الطيار''، وكان اكتتاب ''الطيار'' ضحية مباشرة للآلية، ولا يمكن فصل الآلية عن السعر لارتباطها به ارتباطاً وثيقاً، مع استغرابي الشديد للتطبيق، فإذا توجب تغطية الاكتتاب من قبل الشركات الاستثمارية 100 في المائة فما دور ضامن الاكتتاب؟ أعتقد أنه لا حاجة إليه، وإذا كان دور الشركات الاستثمارية التسعير والتسعير فقط فلا داعي للتغطية، وأرجو من هيئة سوق المال الموقرة بيان اللبس في هذا الموقف وتبريره.
رابعا: إيقاف الاكتتاب هل هو شهادة لمصلحة طريقة بناء سجل الأوامر أم العكس؟
بعد إيقاف الاكتتاب تنوعت الأطروحات بين من يمجد طريقة بناء سجل الأوامر، وهذا الفريق يرى أن عدم اكتمال الاكتتاب في بناء سجل الأوامر يؤكد جدارة هذه الطريقة بالاتباع، وأنها الطريقة الأعدل والأمثل .. إلخ، وفريق آخر يرى أن إيقاف الاكتتاب يبين بشكل واضح وجلي أن هذه الآلية مهلهلة، ويتساءل أنصار هذا الفريق عماذا كان يمكن أن يحدث لو تم اكتمال الاكتتاب بالنسبة المتبقية وهي الثلث تقريباً، معنى ذلك ''كأنك يا أبو زيد ما غزيت''، وأن الاكتتاب كان سيمر مرور الكرام كما مر غيره ويدرج سهم الشركة في السوق، وبعد ذلك سيقال للخاسرين في السوق إن اقتصادنا مفتوح وسوقنا حر والسهم يحدد سعره حسب العرض والطلب والتحليل الفني والأصولي .. إلخ، أما أنا فسأكون من مؤيدي الرأي الأول لو أن جميع شركات الاستثمار رفضت الاكتتاب في الطرح أو على الأقل التغطية كانت بنسبة ضئيلة، وبالتالي سيكون ذلك شهادة لمصلحة آلية بناء سجل الأوامر.
خامساً: هل المصلحة في إدراج الشركة في السوق أم لا؟
ليست هناك مصلحة مباشرة في إدراج أي شركة في السوق من عدمها، الأمر المهم - في رأيي - هو تعميق السوق لما لذلك من أثر فاعل وحيوي على السوق المالية آملا أن يصل عدد الشركات المدرجة إلى الألف والألفين، وأن تتنوع قطاعات السوق لتشمل جميع القطاعات الاقتصادية، لأن ذلك هو ما يخلق التوازن الحقيقي في السوق المالية، الأكيد أن هناك مصلحة مؤكدة في إدراج أي شركة ناجحة بسعرها الاسمي (عشرة ريالات) أو بسعرها الحقيقي الذي - مع الأسف - يتبين عادة بعد الإدراج، وعلى العكس تماماً فالسوق ستتأثر سلباً وثقة المتعاملين بالسوق ستهتز عند إدراج أي شركة لا تتمتع بمواصفات النجاح أو بطروحات أولية مبالغ في تسعيرها.
لا شك في أن إيقاف الاكتتاب يعد فشلاً (ولا مشاحة في الاصطلاح) للمجموعة وللمستشار المالي وللمؤسسات المالية الضامنة، وكذلك لشركات الاستثمار التي اكتتبت في 67 في المائة من الطرح وقبلت النطاق السعري المعروض، ولا شك أن ذلك سيلقي بظلاله على إعادة طرح الشركة مستقبلاً، ويتوقع الجميع أن ينخفض تقييم الشركة عند إعادة الطرح فيما لو تمت إعادة الطرح مستقبلاً. وفي رأيي أن إعادة الطرح مستقبلاً دون تغيير حقيقي في النتائج أو في التسعير لا معنى له، وإلا فما الجديد؟!
على العكس من ذلك فإنني أرى - وخلافاً لكثير لما قيل - أن إيقاف الاكتتاب كان نجاحاً كاسحاً ونصراً مؤزرا لهيئة السوق المالية لشجاعتها وقبولها وتأييدها الإيقاف، وإن كنت أتمنى من الهيئة أن توضح للسوق والمتعاملين آلية الإيقاف والسبب الرئيس له، وما الاحتمالات التي تواجهها الطروحات في هذا الصدد، خاصة العلاقة بين تغطية سجل بناء الأوامر ومتعهدي التغطية.
خلاصة الأمر - في نظري - أن الأمر ليس في التسعير ولا في سجل بناء الأوامر, لكن السر في قاعدة (جود السوق ولا جود البضاعة)، فالشركات الاستثمارية لا ترى أن السوق مشجعة على الدخول في الاكتتاب، وأن هناك مخاطر كبيرة في إمكانية التداول لاحقاً بسعر أعلى من سعر الاكتتاب، وأجزم بأن الشركات الاستثمارية حين تدرس مثل هذه الفرص تنظر إليها بعين المضارب وعقل البائع التاجر، وليس المستثمر الحريص، وبالتالي فلن تدقق كثيراً في القوة المالية للشركة أو الإدارة أو الصناعة التي تعمل فيها، وإنما يهمها أولاً وثانياً وعاشراً مدى إمكانية البيع بعد التداول، وكم الأرباح المحققة من وراء ذلك، وبالتالي فهي ستدرس أموراً أخرى مثل: السيولة المتحركة في السوق، نتائج الاكتتابات الأخرى، حركة المؤشر، وتوقعات السعر الأفضل لبيع السهم بعد إدراجه للتداول مباشرة، وهي المؤشرات الفنية التي ينظر إليها المضاربون ولا يلتفت إليها المستثمرون طوال الأجل .
في رأيي إذا أردنا أثراً فاعلاً لمصلحة السوق ولمصلحة المكتتبين أن يتم حظر تداول أسهم الشركات الاستثمارية والصناديق المكتتبة والمسعرة للطرح لمدة سنتين على الأقل، أما أسهم المؤسسين فإني أقترح أن يتم حظر تداول أسهمهم لمدة لا تقل عن خمس سنوات، ويمكن تخفيضها إذا حققت الشركة النتائج المتوقعة أو أفضل منها خلال السنوات الثلاث الأولى، وبالتالي سنرى أن الشركات المستثمرة والصناديق أكثر جدية في التعامل مع الاكتتابات القادمة، والنظر إليها نظرة المستثمر الطويل وليس وفقاً لقاعدة ''اضرب واهرب''.