لا تثقوا بقطاع الإنشاءات والمقاولات المحلي!

دعوني أقول لكم اليوم، بشكل صريح ومباشر، ما قد لا يستطيع مسؤول رسمي قوله علانية، رغم أن الجميع مقتنع من مسؤولين ومواطنين وقطاع أعمال في المملكة أنه عين الحقيقة. فلا أحد يستطيع إنكاره: الثقة بالمقاولين المحليين مفقودة! أقول هذا الكلام بعد مرور ما يزيد على أربعة عقود من التنمية المادية للمباني والمنشآت العامة والخاصة منذ أوائل السبعينيات الميلادية، رغم أنه كان من المفترض أن تكون لدينا شركات مقاولات عابرة للقارات بحكم تجربة التنمية تلك!
أقول هذا الكلام اليوم من واقع حدثين، الأول حديث وزير المالية يوم السبت ''إن الوزارة استعانت بشركات عالمية لتنفيذ المشاريع المتعثرة التي تحدث عنها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز... ''. والحدث الآخر خبر تأسيس شركة مقاولات ضخمة برأسمال كما قيل ثلاثة مليارات ريال عبر اندماج مجموعة من شركات المقاولات! ومن خلال معرفتنا بالمؤسسين الذين لديهم شركات إنشاءات ومقاولات اليوم، فإننا لا نتوقع الكثير، وإنما هي محاولة للحصول على حصة السوق التي خسروها أخيرا لمصلحة شركات عالمية.
لنبتعد عن الحقائق الكبيرة على مستويات التنفيذ والتطوير وهيكل الكيانات العاملة في هذا القطاع كناحية تحليلية اقتصادية، مالية، وإدارية, ولنركز فقط على مقارنات بسيطة يشعر بها المواطن والمقيم والعالم والجاهل, لكنها تعكس الحال وتؤكد النتيجة، وهي أننا كمجتمع لا نثق ولا نستطيع أن نثق بقطاع الإنشاءات والمقاولات المحلي. والتعميم هنا لا يلغي وجود الاستثناءات، وإن كنت شخصيا لا أعرف أي استثناء عن هذه القاعدة، ما داموا يصرون على تنفيذ المشاريع الموكلة إليهم بهذه البدائية!
أولى تلك الملاحظات: لنستمع إلى معاناة المواطن الذي يقرر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أن يبني بيتاً! فهو, أي المواطن, لا ينتهي من بناء بيته من قبل المقاول بأوراقه ووثائقه ورخصة السعودية وجنسياته العربية أو الأجنبية، إلا وقد أصيب بالضغط والسكري، وأصبح في حال يكلم فيها نفسه والجدران!
ثانيا: شاهدوا طريقة تنفيذ المشاريع العامة من طرق ومجار ومبان، وكيف تكون إجراءات السلامة فيها؟! جاء إلى بيتي قبل غروب الشمس يوماً ما عامل مسكين رث الثياب، وقال بالحرف الواحد، وبلكنته (المتعربة) ''ممكن أن أشبك هذا السلك من بيتك؟ قلت نعم، أي سلك؟!'' فرد أنه يجب أن يضع إنارة على الحفرة التي أمام منزلي ومنزل الجار والخاصة بمشروع الصرف الصحي ''وكفيل ما يجيب ''ماطور كهرباء''، وبالتالي يريد أن يشبك التيار الكهربائي من منزلي! وإذا في الطرف الآخر من الشارع سرير من كرتون لهذا الحارس لينام عليه!! فوافقت على مضض لسببين الأول: حتى فعلا لا تقع سيارة في تلك الحفر! والآخر أحسست أنني أفعل أجرا وإن كنت لا أدري في من؟ هل في العامل المسكين أم في الجهة التي منحت المشروع لهذا المقاول؟ أم...
أما مسألة وجود إجراءات سلامة للعاملين الذين ينفذون تلك المشاريع، فهذا ترف لا داعي له! حتى إني سمعت من أحدهم (مدير مالي أجنبي في شركة مقاولات تعتبر نسبياً كبيرة الحجم)، يقول ما معناه إن وجهة نظر الشركة حتى إن لم تقلها بشكل صريح، أن تكلفة ترحيل أحدهم إن تعرض لخطر ما، أرخص من تكاليف إجراءات السلامة الباهظة!
ثالثاً: لننظر إلى طرق نقل مواد البناء للمشاريع من قبل شركات المقاولات والإنشاءات عبر شاحناتها. فقبل أسابيع قليلة فقط وفي شارع العليا العام تحديداً في مدينة الرياض، وقرابة الساعة العاشرة والنصف صباحاً حيث يبنى برج جديد، كانت هناك قاطرة طويلة تقوم بتوريد حديد لهذا البرج تقتحم هذا الشارع التجاري في يوم عمل لتوريد الحديد! ليقوم العمال بإغلاق الطريق لأكثر من عشر دقائق أمام السيارات، حتى تستطيع تلك القاطرة الدخول إلى منطقة البناء! أين الإدارة اللوجستية لدى هذا المقاول؟ وأين احترام الأنظمة المرورية إن كانت هناك أنظمة تمنع ذلك؟
رابعاً: لولا فكر (الستر على من ستر الله عليه)، لكنا اليوم نتحدث عن مليارات الريالات ذهبت أدراج الرياح بسبب التنفيذ العشوائي للمشاريع, أصلا ما كان يجب أن تكلف تلك المليارات من الريالات، وبنظرة عامة على المباني والمنشآت العامة بما في ذلك المطارات واجهة المملكة, نجد أن قضية البناء والصيانة للمباني من قبل شركات المقاولات، وإن كانت الدولة تدفع سنوياً مليارات الريالات مقابل عقود الصيانة، إلا أن حال تلك المباني وسرعة تقادمها واضحة، فيما هناك دول تتفاخر بمبان مبنية منذ 400 سنة ولا تزال تستخدم وكأن بناءها تم يوم أمس. حتى أكون منصفا فإن هذه النقطة بالذات هي مسؤولية المقاولين والجهات الرسمية على حد سواء. فلدينا مشكلة سرعة تقادم المباني وبالذات الرسمية!
وعودة إلى النقطة الرئيسة, وهي حال شركات ومؤسسات المقاولات التي تعاني ويعاني كل البلد من معاناتها، فالقطاع غير منظم. أقول إنها لا ثقة بها. وأتمنى من المسؤولين الذين لديهم تلك المشاريع أن يدفعوا بمزيد من تلك المليارات من الريالات للشركات الصينية أو الكورية أو أي جهة مع شرط واحد فقط، هو منع إعطائها من الباطن لمقاول باسم محلي وتنفيذ عمالة أجنبية. والأهم أن تعمل الجهات الرسمية التي ترسي تلك المشاريع على أن تتأكد وعلى أرض الواقع أن الشركات التي تتقدم للمناقصات موجودة وليست على الورق، والتي يكون دورها الحصول على تلك المناقصات ومن ثم إعطاؤها من الباطن لمقاولين آخرين لتنتهي مشاريعنا الكبيرة في أيدي عمالة...! أتمنى أن تتبنى الجهات المسؤولة نظام تصنيف عالمي للمقاولين بناء على معايير عالمية وأن يفتح المجال للجميع، دون أن نضع شماعة الوطنية غطاء لذلك!
يا مقاولينا ويا جماعة الخير: هذا البلد ليس بقرة حلوبا، الجميع يريد أن يرضع منها قبل الآخر ما دام في الضرع لبن، وقبل أن يجف! علينا أن نسعى إلى بناء المملكة مادياً وفكرياً وحضارياً. وفي الختام لدي سؤال ساذج, لكن اسمحوا بأن أطرحه ''أرضاً'' دون انتظار لإجابة: لماذا تتقادم المباني الرسمية بسرعة مثل مطاراتنا التي أنفق عليها مليارات الريالات بشكل يجعلنا ننفق أكثر عليها لصيانتها؟ ومع ذلك نجد أن مطار دولة تعيش على مساعدات المملكة أفضل من مطاراتنا كلها دون استثناء؟ أظنكم تعرفون الإجابة!! والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي