أزمة فهم للأزمة الاقتصادية .. من المسؤول؟
من الثابت أن عدداً قليلاً من خبراء الاقتصاد توقعوا الأزمة الاقتصادية الحالية، وهناك قدر قليل من الاتفاق فيما بينهم بشأن الأسباب الجوهرية التي أدت إلى اندلاع هذه الأزمة. لذا فمن غير المستغرب ألا يكون خبراء الاقتصاد في وضع يسمح لهم بالتكهن بالسرعة التي قد تنتهي بها الأزمة.
لا شك أننا ندرك جميعاً الأسباب المباشرة وراء الأزمات الاقتصادية: فالناس يحجمون عن الإنفاق بسبب انحدار دخولهم، ولأن وظائفهم تصبح غير آمنة، أو كلا الأمرين. ولكننا نستطيع أن نرجع بالأسباب خطوة إلى الوراء فنقول إن دخول الناس تنخفض وتصبح وظائفهم غير آمنة لأنهم كانوا قبل فترة قصيرة محجمين عن الإنفاق ـ وهكذا، فكلما رجعنا إلى الوراء خطوة سنجد أنفسنا في حلقة مفرغة.
ولكن أين ولماذا بدأت هذه الحلقة المفرغة؟ ولماذا تفاقمت سوءا؟ وماذا نستطيع أن نفعل لعكس اتجاهها؟ هذه هي التساؤلات التي عجز خبراء الاقتصاد عن الإجابة عنها بوضوح.
كانت حالة المعرفة الاقتصادية على القدر نفسه من السوء إبان أزمة الكساد الأعظم التي أعقبت انهيار سوق البورصة في عام 1929. والواقع أن خبراء الاقتصاد لم يتوقعوا ذلك الحدث أيضاً. ففي عشرينيات القرن الـ 20 حذَّر البعض من المبالغة في أسعار سوق الأوراق المالية، ولكنهم لم يتوقعوا فترة الكساد التي دامت عقداً كاملاً من الزمان وأثرت سلباً في الاقتصاد بالكامل.
في وقت متأخر من فترة الكساد الأعظم، في آب (أغسطس) 1938، تحدث رالف م. بلاجدن في صحيفة ''كريستيان ساينس مونيتور'' عن مجموعة غير رسمية من المقابلات التي أجريت مع أساتذة أكاديميين، وخبراء مصرفيين، وقيادات نقابية، وممثلين عن الجمعيات التجارية والفصائل السياسية في الولايات المتحدة، وطُرِح عليهم جميعاً السؤال نفسه في هذه المقابلات: ''ما السبب وراء الركود؟''، فجاءت الإجابات المتعددة محيرة إلى حد كبير وغير باعثة على الاطمئنان إلى أن أي شخص كان يعرف الأسباب التي أدت إلى أعمق أزمة تواجهها الرأسمالية على الإطلاق.
كانت الأسباب المطروحة موزعة على نطاق واسع بين الحكومة، والعمالة، والصناعة، والسياسات والمخططات الدولية. واشتملت على تدخلات حكومية مضللة في الأسواق، وضرائب مرتفعة على الدخول ومكاسب رأس المال، وسياسات نقدية خاطئة، وضغوط من أجل زيادة الأجور، واحتكارات، وتكدس المخزون، وحالة من عدم اليقين ناتجة عن خطة إعادة تنظيم المحكمة العليا، والعودة إلى التسلح في أوروبا والخوف من الحرب، وتشجيع الحكومات النزاعات العمالية، وتخمة الادخار الناجمة عن الانكماش السكاني، والقدرة على عبور الحدود، وسهولة الائتمان قبل الكساد.
ورغم تحسن النظرية الاقتصادية إلى حدٍ كبير اليوم، فإذا ما سألنا الناس عن سبب الأزمة الحالية، فسوف نحصل على الإجابات نفسها في الأغلب. لا شك أننا سنسمع بعض الإجابات الجديدة أيضاً: مثل الفقاعات العقارية غير المسبوقة، وتخمة الادخار العالمية، واختلال التوازن التجاري العالمي، والعقود المالية الغريبة، والرهن العقاري الثانوي، وأسواق الأوراق المالية غير الخاضعة للتنظيم، وأخطاء وكالات التقييم والتصنيف، والتقييمات العقارية المشبوهة، والرضا عن المجازفات التي تخوضها الأطراف المشاركة.
وسيكون عديدا من هؤلاء الناس على حق إما جزئياً وإما كلياً في الأغلب، وذلك لأن الأزمة الاقتصادية كانت ناجمة عن تضافر عدة عوامل وعدة أمور سيئة تصادف حدوثها في الوقت نفسه، الأمر الذي دفع النظام المالي إلى تجاوز نقطة الانهيار. وعند تلك النقطة، بدأت المتاعب في جذب الاهتمام على نطاق واسع، الأمر الذي أدى إلى تدمير الثقة العامة، وتحريك تلك الحلقة المفرغة من الأفعال وردود الأفعال السلبية.
من الطبيعي أن ينجذب انتباهنا نحو أسوأ الأحداث. والسبب وراء هذا على وجه التحديد هو أن أسوأ الأحداث عبارة عن حالات شذوذ إحصائي، وربما تكون راجعة إلى أسباب متعددة.
ولنتأمل هنا مسألة التنبؤ بأحداث مثل زلزال كانون الثاني (يناير) 2010 الذي ضرب هايتي، والذي قتل أكثر من 200 ألف شخص. لقد استولى ذلك الحدث على اهتمامنا لأنه كان رهيباً من حيث حجم الخسائر في الأرواح والممتلكات. ولكن إذا ما ذهبنا إلى ما هو أبعد من محاولة التنبؤ بحدوث الزلازل إلى التنبؤ بحجم الأضرار الناجمة عنها، فسيكون بوسعنا بكل تأكيد وضع قائمة طويلة بالعوامل المساهمة ـ بما في ذلك حتى العوامل السياسية والمالية ـ أشبه بقائمة العوامل التي تسببت في اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية.
والواقع أن الأزمة لا تعرف نهاية لقائمة الأسباب التي أدت إليها. ففي ظل هذا النظام الاقتصادي المعقد الذي يتغذى على نفسه على أكثر من نحو، قد تبدو الأحداث التي تؤدي إلى حلقة مفرغة تافهة في نظرنا، كمثل الفراشة المتخيلة التي قد تؤدي برفرفة أجنحتها في الأمازون إلى سلسلة من الأحداث التي قد تسفر في النهاية عن تشكل إعصار في منطقة بعيدة. إن نظرية الفوضى عبارة عن عمليات حسابية تفسر مثل هذا الاعتماد على ظروف نائية وتافهة في مظهرها، بل تفسر أيضاً لماذا يصبح استقراء حركة الكواكب الدقيقة ظاهرياً أمراً مستحيلاً إذا ما ابتعدنا في المستقبل بالقدر الكافي.
ولا يستطيع خبراء الأرصاد الجوية أيضاً التنبؤ بأحداث في المستقبل البعيد، ولكنهم يعملون على الأقل وفقاً لنماذج حسابية دقيقة، حيث يعمل هؤلاء الخبراء على برمجة أجهزة الحاسب الآلي الموازية الضخمة، حيث تقدم حلولاً عددية للمعادلات التفاضلية المشتقة من نظرية ديناميكية السوائل والديناميكية الحرارية. ويبدو أن العلماء يعرفون الآليات التي تولد الطقس، حتى ولو كان من الصعب على نحو متأصل استقراء الأحداث لمسافة بعيدة في المستقبل.
والمشكلة بالنسبة للاقتصاد الكلي تكمن في صعوبة منهجة مختلف الأسباب المذكورة للأزمة الحالية. والواقع أن النماذج الحسابية التي يستعين بها خبراء الاقتصاد الكلي قد تكون أشبه بنماذج الطقس في بعض جوانبها، ولكن سلامتها البنيوية ليست مضمونة بأي نظرية راسخة ثابتة.
إن الكتاب الجديد الأكثر أهمية حول أصل الأزمة الاقتصادية، من تأليف كارمن راينهارت وكينيث روجوف تحت عنوان ''هذه المرة مختلفة''، يُعَد في الأساس تلخيصاً للدروس المستفادة من كل أزمة مالية شهدها أي بلد من بلدان العالم في التاريخ المسجل. ولكن الكتاب يكاد يكون غير نظري بالكامل. فهو يكتفي بتسجيل الأنماط المتكررة. ومن المؤسف أننا لن نجد في 800 عام من التاريخ المالي سوى مثال واحد فقط لانكماش عالمي هائل حقيقي، أو أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن الـ 20 على وجه التحديد. لذا فمن الصعب أن نعرف على وجه الدقة ماذا ينبغي لنا أن نتوقع في الانكماش الحالي استناداً إلى تحليل راينهارت وروجوف.
وهذا يعني أننا نحاول استخدام أنماط من الماضي لأزمات مختلفة سعياً إلى استنباط التشخيص المحتمل للأزمة الحالية. ونتيجة لهذا فإننا نجهل ببساطة ما إذا كان التعافي سيأتي قوياً أم مخيباً للآمال.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010.
www.project-syndicate.org