المجلس النقدي الخليجي .. بداية لبدايات!
كان يوم الثلاثاء 30 آذار (مارس) 2010 يوماً مميزاً من الناحية التاريخية لمنطقة الخليج, وآمل أن يكون يوماً مميزا أيضا في خريطة تاريخ العالم أجمع، حيث تم في هذا اليوم الإعلان عن تأسيس المجلس النقدي الخليجي (نواة البنك المركزي الخليجي)، وإعلان أول رئيس لهذا المجلس وهو الدكتور محمد الجاسر، محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي. وفي اعتقادي أنه منذ التوقيع على الاتفاقية الاقتصادية الموحدة عام 1981، تعد خطوة تأسيس المجلس النقدي الخليجي أهم الخطوات الفنية التي تعبر عن أن هناك خطوات واضحة تم تنفيذها على أرض الواقع للوصول إلى أهداف أهم وأشمل. وفي هذا الخصوص نعني هدف إنشاء عملة خليجية واحدة تتويجاً لدمنا الخليجي الواحد.
الغريب أني توقعت أن يكون حجم التغطية الإعلامية أكبر من مجرد تغطية الخبر والإعلان عن تأسيس المجلس النقدي الخليجي، ولم أجد كثيرين كتبوا حول تأسيس المجلس النقدي الخليجي من ناحية تحليلية، وتأثيرات ذلك سواء على المستوى الاقتصادي، الاجتماعي والسياسي لدول المنطقة، وتأثير ذلك أيضا في مستقبل الخليج والاقتصاد العالمي خلال العقود المقبلة ومحاولة معرفة بعض نواحي هذا التأثير ـ إن وجدت! خصوصا أن هذه الخطوة تأتي مع تغيرات بدأت تتضح يوما بعد يوم في موازين القوى العالمية، وبعد الأزمة المالية العالمية التي لم يحدث مثلها منذ أكثر من 80 عاما. وتبعات تلك الأزمة على طريقة إدارة الاقتصاد العالمي، والرؤوس التي بدأت تبرز والقوى التي بدأت تتراجع وتخبو. وفسرت هذا التجاهل من قبل إعلامنا الخليجي، بأنه إما نتيجة حالة إحباط من العمل الخليجي الذي بدأ منذ 30 عاماً! وإما عدم فهم! أو ربما خوف من العين (بفتح حرف العين) والحسد!
إن مجرد كشف الغطاء عماذا يعني تأسيس المجلس النقدي الخليجي سيجعلنا ندرك حجم العمل المطلوب من القائمين على هذا المجلس خلال السنوات القليلة المقبلة، وهي مهام جبارة يجب أن تتم بشكل أو آخر حتى يمكن إطلاق العملة الخليجية الموحدة في تاريخ ما خلال السنوات المقبلة, التي لا أعتقد أننا سنراها واقعاً قبل خمس سنوات من الآن عند الاطلاع على ما هو مطلوب إنجازه لتدشين العملة الموحدة, الذي هو نتيجة وليس هدفا في حد ذاته.
كما مر خلال السنوات الماضية هناك, فرق كبير بين الطموحات والآمال التي لا أحد يشكك فيها والرغبة في الوحدة الخليجية والتكامل الخليجي، وعلى رأسهم الطامحون القادة الخليجيون الذين أثبتوا أن هناك نظرة ثاقبة منذ نحو 30 عاما للمصير الواحد المشترك والدم الواحد. وبين الواقع المعاش والخطوات التي يجب أن تبنى على أرض الواقع للوحدة الكاملة والانصهار الذي لا يعني إلغاء الآخر. وبصراحة نلمس في بعض الأحيان حالة تشكيك أو توجس على مستويات مختلفة في جدوى العمل الخليجي، لكن ـ ولله الحمد ـ ما تلبث تلك الحالة أن تختفي وتتلاشى بمرور الوقت، وإن كانت عاملا معطلا للعمل الخليجي في بعض الأحيان. وما حالة انسحاب الإمارات وعمان من العملة الخليجية إلا مؤشر على ذلك. وإن كنت متأكدا أن الجميع في النهاية سينضم، فلا أحد يستغني عن الآخر.
وعليه دعونا نعطي أمثلة بسيطة عما سيتعاطى معه المجلس الأعلى للمجلس النقدي الخليجي خلال الفترة القصيرة المقبلة حتى ندرك أن جهودا كبيرة مطلوب أن تبذل، وتاريخا يجب أن يحفر على صخر, وليس أعمالا تكتب على الورق للوصول إلى الأهداف المنشودة!
أولا: من الناحية الفنية هناك اتفاق على إنشاء حساب احتياطي لدعم العملة الخليجية الموحدة المزمع إيجادها تعادل قيمة هذا الحساب واردات كل دولة من الدول الخليج. وهناك اتفاق على معايير تتعلق بحساب أسعار الفائدة على ألا يتجاوز العجز في الموازنة العامة نسبة 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وألا يتجاوز الدين العام 60 في المائة من الناتج المحلي لكل دولة. وضبط نسب التضخم التي يجب ألا تزيد على المتوسط المرجح للدول المشتركة في العملة مضافا إليها 2 في المائة, إلى ما هناك من جوانب فنية. هذه المؤشرات العامة، لكن السؤال هو: كيف سيتم التوصل إلى تلك المؤشرات الفنية؟ وما المطلوب للوصول إليها؟ هذا التحدي الأول!
حتى يتم التوصل إلى تلك المعايير والمؤشرات هناك جهود يجب أن تبذل من قبل كل دولة للوصول إليها، مما يتطلب سياسات مالية ونقدية منسقة بشكل لا يمكن أن نتصوره. وفي كل جزئية هناك تفاصيل كثيرة يجب أن يتم التعاطي معها بكل دقة، وأقرب مثال على ذلك توحيد أو على أقل تقدير تقارب معايير الأداء وأنظمة الإشراف والرقابة. هذه الناحية وحدها تتطلب عملا مرهقا للوصول إلى هذا التقارب، والدليل الأزمة المالية العالمية الأخيرة، وكيف شاهدنا التذبذب الحاد في مستوي تأثير الأزمة المالية في الدول الست المشتركة في العملة الخليجية. حيث كان واضحا أن بعض الدول الخليجية كانت متحفظة في سياساتها, وكان هذا التحفظ في مصلحتها، ودول توسعت دون ضوابط فكان التأثير كبيرا ومباشرا فيها, وتبعات ذلك لا تزال تتوالى عليها! وهو ما يعني ضرورة وجود معايير للأداء الاقتصادي موحدة أو متقاربة، وبالذات تلك التي تتعلق بالاستقرار المالي والنقدي للدول الخليجية حتى يمكن أن نوجد اتحادا نقديا خليجيا. الاتحاد النقدي الخليجي ليس عملة موحدة فقط! وهذا بطبيعة الحال يعني ضرورة أن تكون هناك تشريعات رقابية وإشرافية متقاربة إلى حد بعيد مع نظرة استراتيجية للسياسات النقدية والمالية لمنطقة الخليج ككل, خصوصا أننا دول منكشفة على اقتصادات العالم.
مثال آخر وهو نظام المدفوعات الذي يجب أن يكون نتيجة محصلة عمل موحد للوصول إلى نظام وهيكل سوق مالي موحد، نستطيع من خلاله تعظيم الفائدة وكذلك متابعة التطورات والمعلومات وكل ما يتعلق بأي نظام مدفوعات متميز على مستوى دولة واحدة وليس على مستوى دول مختلفة.
مثال ثالث تطبيق الأنظمة العالمية مثل معايير بازل II على البنوك العاملة في الخليج، الأمر الذي من شأنه أن يعزز تقارب معايير تقييم الأداء ونظم الرقابة ويسرع الخطى نحو الوصول إلى العملة الموحدة في موعدها. وأنا هنا فقط أعطى أمثلة على كثافة والجهود المطلوبة فنياً للوصول إلى مرحلة ما قبل العملة الخليجية. فما بالك بالأمور غير الفنية التي يأتي في مقدمتها وأهمها الاندماج الاقتصادي لمنطقة الخليج، الذي يعني وجوده استقرارا ماليا خليجيا، وعدم وجوده يعني العكس. اقتصادات دول الخليج ليست متشابهة, وإن كنا نعتقد أنها كذلك! وطريقة إدارتها أيضا مختلفة، وإن اعتقدنا عكس ذلك! إذا ما أردنا النجاح علينا أن تكون لدينا ستة اقتصادات تتكامل مع بعضها ولا تتنافس، وألا سيكون هناك من يحاول أن يضع العصا في الدولاب بحسن نية أو سوء نية! وأخيرا وليس آخراً، لنحذر من أصحاب المصالح الذين سيحاولون عرقلة العجلة بكل قوة خوفاً على مصالحهم الحالية سواء من داخل البيت أو خارجه. كل ذلك ونحن لم نتحدث عن الجانب الإداري المطلوب تأسيسه كنواة للبنك المركزي الخليجي. لكن بالعزيمة والإصرار يجب الوصول إلى الأهداف المنشودة. والله من وراء القصد.