شركة الشخص الواحد.. في ضوء ضبط الفقهاء للمصطلحات وتساهل شراح القانون!
كان في خاتمة مقالي السابق الإشارة إلى توسيع القانونيين لهامش المسؤولية المحدودة من خلال ما يسمى بـ «شركة الشخص الواحد» وهذا من التلاعب بالمصطلحات, فالشركة عند الفقهاء وعند القانونيين في تعريفها اللغوي والاصطلاحي تكون في التعاقد بين شخصين, ولهذا عرَّفها علماء اللغة بأنها بمعنى: «الخلطة» والخلطة هي التي تكون بين شيئين, ومنه قوله تعالى: (وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم..) والخلطاء في الآية هم: الشركاء, والآية تعبر عن واقع ما يكون عليه كثير من الشركاء من بغي وظلم, ونلاحظ أن الله تعالى عبر هنا بقوله (كثيراً) وهي لا تعني الغلبة, ولهذا كانت الشركة من العقود الجائزة؛ لأن مصالحها تغلب مفاسدها, ولو غلب الظلم عليها لكانت محرمة, ولكن الواقع يشهد أن كثيراً من الشركاء لا يبغي بعضهم على بعض, كما أن كثيراً من الشركاء يبغي بعضهم على بعض, ولا تناقض بين العبارتين, كما هو واضح من حيث لغة العرب. أما لو عبر في الآية بالأكثر لكان الأمر مختلفاً من حيث المعنى والحكم.
الحاصل أن الشركة من حيث اللغة لا تكون إلا بين شريكين.
وهكذا أيضاً في اصطلاح فقهاء الشريعة, ولهذا قالوا في تعريف الشركة: (اجتماع في استحقاق أو تصرف) والاجتماع لا يكون إلا بين اثنين. وهكذا عرفها واضعو الأنظمة, حيث قالوا كما في نظام الشركات السعودي:(عقد يلتزم بمقتضاه شخصان أو أكثر, بأن يسهم كل منهم في مشروع, يستهدف الربح, بتقديم حصة من مال أو عمل, لاقتسام ما قد ينشأ عن هذا المشروع من ربح أو خسارة) فنلاحظ هنا أن التعريف نص على ضرورة أن يكون العقدان بين شخصين فأكثر, ومعلوم أن نظام الشركات السعودي وغيره من أنظمة الشركات العربية مستقاة من حيث الأصل من قانون الشركات الفرنسي, وهو يدل على إجماعهم على هذا المفهوم - الذي انقلبوا عليه لاحقا - وفي أركان الشركات يتفق القانونيون على أن من أركانها: (تعدد الشركاء) وتعريف القانونيين للشركات, وعدّهم هذا الركن من أركانها, دليل على اتفاقهم على أن تعدد الشركاء عنصر رئيس من عناصر الشركة, وأنه متى انفرط هذا العنصر أو الركن تخلفت الشركة عن الوجود, ولهذا فإن زوال هذا الركن الموضوعي يعني البطلان المطلق - وليس النسبي - للشركة, إذن, فلماذا انقلب القانونيون على مفهوم الشركات؟
كثير من شراح القوانين يعتذرون عن ذلك بمعالجة عقود الشركات ذات الشخص الواحد من الباطن, وذلك لتكون على سطح الأرض بدلاً من باطنها, ومن أجل المحافظة على وجود الشركات إذا توفي الشركاء - مثلا- مع بقاء شريك واحد, إضافة إلى الاستفادة من فرصة المسؤولية المحدودة, والتي توجد في الشركات لا في المؤسسات..
وفي الواقع أن هذه الحجج غير كافية في الانقضاض على مصطلحات ذات دلالات لغوية ثابتة, ومفاهيم علمية مستقرة, إذ يمكن معالجة هذه الإشكاليات بأساليب أخرى, وإلا فإن هذا يعني الانقضاض على كل المفاهيم والمصطلحات التي دونها في الأهمية ما دام أن الركن قد استبيح, ولهذا وقفت بعض القوانين الأجنبية موقفاً صارماً من إقرار هذا النوع من الشركات, كالقانون الفرنسي, فقد رفض أولاً تمرير قانون شركة الشخص الواحد, ثم سمح به مؤقتاً حين يتلاشى الشركاء إلا شريكاً واحداً, فتبقى الشركة لسنة واحدة فقط, ثم أجازه مطلقاً منذ عام 1985م, وحين أقر القانون الفرنسي الشركة ذات الشخص الواحد - وسبقه إلى ذلك بعض القوانين الأوروبية - بدأت المطالبة بإقراره عربياً, فرفضت دول عربية ورضخت أخرى, وهذا يدل على درجة من التبعية لما هو أجنبي وإن كان في ذلك انقلاب على المفاهيم الشرعية والنظامية, كما يعطي انطباعاً واضحاً على ضعفٍ ما, في ضبط القانونيين للمصطلحات.
إن مشكلة الشركة ذات الشخص الواحد لا تكمن في تخلف ركن من أركانها, حيث يمكن معالجة هذه المشكلة من خلال المؤسسة ذات الشخص الواحد, فنحولها من شركة إلى مؤسسة وتحظى بالميزة نفسها, وهي محدودية المسؤولية في الحصة أو السهم المدفوع فقط, ولكن المشكلة تتعاظم في نظري حين يتم توسيع المسؤولية المحدودة لتشمل الشخص الواحد, وبالتالي نمهد للتلاعب بديون الناس ومستحقاتهم بأساليب نظامية.
إننا يمكن أن نتفهم وجود شركات لها مسؤولية محدودة في الشركات التي يكاد يتلاشى فيها العنصر الشخصي, ويحل فيها العنصر المالي كالشركات المساهمة - على خلاف فيها أشرت إليه في المقال السابق - لكن أن نؤسس للمسؤولية المحدودة للشركات التي يبرز فيها العنصر الشخصي, وإن كانت ذات طبيعة مختلطة, كالشركة ذات المسؤولية المحدودة, فإن هذا مما يسمح بتضييع الحقوق باسم النظام, وهذا يكشف لنا عن سر من أسرار إفلاس آلاف الشركات في الغرب ولا سيما بعد الأزمة المالية, فالشركة تفلس وتفرط من قبضة الدائنين, ثم يتجه شركاؤها لافتتاح شركة جديدة باسم جديد وبإجراءات معينة تختلف من بلد إلى آخر, إذن استطاع الشريك أو الشركاء التملص من الحقوق, ثم ظهروا بوجه جديد, والدائن في حيص بيص..!