التطبيع سم لن نتجرعه

جاءت ردود الأفعال الرافضة وبقوة لمبادرتي كل من الدكتور محسن العواجي بإعلانه استعداده للظهور في قناة صهيونية متلفزة للرد عليهم في عقر دارهم، وأظنها كانت إيجابية وليست سلبية، كونها ليست من أشكال التطبيع أولاً، وثانياً، أن ظهور شخصيات تعبر عن الفكر المقاوم للمشروع الصهيوني في وسائل إعلام العدو، أفضل من ترك التطبيعيين ومدعي العقلانية والواقعية من المهزومين العرب هم من يظهر فيها وهو يندد بالمقاومة معتبرا إياها عملا من أعمال الإرهاب، وكذلك الدكتور محمد العريفي الذي حفلت مبادرته بتسجيل إحدى حلقات برنامجه التلفزيوني على قناة ''اقرأ'' في مدينة القدس المحتلة بردود الأفعال الأشد والأقوى اعتراضا، والتي تختلف عن مبادرة الدكتور العواجي كونها تتطلب المرور عبر البوابات الصهيونية، جاءت جميعها كمقياس طبيعي وعفوي لمدى تقبل فكرة التطبيع مع كيان العدو الصهيوني البغيض، فعلى الرغم من أن المبادرتين لم تحملا مظهراً يمكن وصفه بالتطبيعي، إلا أنهما اصطدمتا بجدار صلب من الرفض الشديد والكامل لأي شبهة تطبيع مع العدو الصهيوني، وخصوصا من رموز بلاد الحرمين الشريفين.
من المعروف، كما ذكر الأستاذ فهمي هويدي في حواره مع الدكتور عبد العزيز قاسم في برنامج ''البيان التالي''، أن التطبيع مع كيان العدو الصهيوني هو آخر الخطوط الدفاعية العربية الإسلامية في مواجهة المشروع الصهيوني الاستيطاني والعدواني على مقدسات الأمة، فخط الدفاع الأول وهو المقاطعة شبه تهاوى بعد أن كان يحكم طوقه حول خناق العدو اقتصادياً وسياسياً، وخط الدفاع الثاني السلام والذي تخلينا فيه عن شروط أساسية وجوهرية، تهاوى هو الآخر، وهو ما أتاح للعدو استثماره سياسياً لفك العزلة عنه، بأكثر مما جنيناه من حقوق، فمنذ أن قبلنا بالانخراط فيما سمي بعملية السلام من مؤتمر مدريد عام 1991، وجعلنا السلام خياراً استراتيجياً، أسقطنا أهم خطوطنا الدفاعية، ولولا مبادرة السلام العربية التي تبنتها قمة بيروت التي أعادت التوازن بترميم الموقف العربي في حده الأدنى، لحقق العدو مكاسب مجانية من عملية سلام غير منضبطة بمعايير سياسية عادلة ومعقولة.
لقد دأب العدو على محاولات شتى لاختراقنا تطبيعياً، ولكنه يصدم دوما بالرفض واللفظ، ويبقى أي تطبيع معه محدوداً ومحاصراً في نطاق ضيق، وكانت المملكة وما زالت أهم هدف تطبيعي له، فهي البلد العربي والإسلامي المؤثر والتي تحمل مواقفها دلالات ورمزية بالغة الأهمية، ومتى طبع معها يصبح باب التطبيع مفتوحاً على مصراعيه عربياً وإسلامياً، وهذا ما كان في وعي وإدراك الملك عبد الله بن عبد العزيز، فعلى الرغم من كونه صاحب مبادرات السلام وحوار الديانات والثقافات لإرساء التعاون بدل الصراع، إلا أنه رفض وبحسم وضع عربة التطبيع أمام حصان السلام، والتزم بمبدأ التطبيع مقابل السلام الكامل، وشاهدنا كيف كان رئيس كيان العدو ''شمعون بيريز'' يلهث في مؤتمر الحوار الدولي في الأمم المتحدة العام الماضي، لإجراء ولو مصافحة عابرة مع الملك عبد الله، وملكنا يصده بتجاهله.
إذا كان إسقاط المقاطعة للعدو، وقبول السير في عملية سلام مرسلة ارتبطا بقرار عربي رسمي، فإن التطبيع مرهون بإرادة شعبية، وهذا واضح في الرفض العربي الشعبي للتطبيع مع كيان العدو كما برز في مصر والأردن وموريتانيا التي اضطرتها ظروف سياسية لإقامة علاقات دبلوماسية مع كيان العدو، حيث رفضت شعوبها التطبيع رفضاً قاطعاً، وهذا الرفض الشعبي العربي للتطبيع هو ما رمم الآثار السلبية لسقوط المقاطعة، والانخراط في عملية سلام بلا مرجعية واضحة ومحكمة.
هذا كله يعكس أن التطبيع مرفوض بالسليقة عربياً وإسلامياً مع كيان مغتصب وعدو فاضح العداء لنا دينياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً، وأن هناك حساسية بالغة من التعامل مع هذا العدو، نعم قد تقام اتفاقية سلام عربي صهيوني سياسياً، ولكنها لن تستطيع مهما تضمنت من اشتراطات تطبيع أن تجبر الشعوب على التعامل مع هذا الكيان تعاملاً طبيعياً، فالتطبيع هو السم الذي لن تتجرعه الشعوب العربية مهما كانت الظروف، وستظل جيناتنا العروبية والإسلامية رافضة لهذا الفيروس الصهيوني مهما طعمنا بجرعات سلام كاذبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي