هل الاتحاد النقدي الأوروبي منطقة عملة مثلى؟

عندما بدأ التفكير في إطلاق اليورو تحدث كثير من المراقبين، خصوصا الأمريكان منهم، عن أن الاتحاد النقدي الأوروبي لا يمثل منطقة عملة مثلى Optimum Currency Area، لأنه يفتقد جانبا كبيرا من شروطها، وذلك عندما تتم عملية المقارنة بالولايات المتحدة التي تستخدم أيضا عملة موحدة، ولكنها تكتسب خصائص منطقة العملة المثلى، على الأقل في المراحل المتأخرة لإطلاق الدولار كعملة موحدة. غير أن الأوروبيين كانوا عازمين على المضي في مشروع العملة الموحدة على أمل أن أي انحراف عن شروط منطقة العملة المثلي سيتم التقارب معه بمرور الوقت وبالنجاح المتوقع أن يحققه اليورو على المستوى الدولي. وبالفعل مع مضي الدول الأوروبية في مشروع العملة الموحدة وتحقيق اليورو لنجاحات كبيرة على أرض الواقع، كان جانبا كبيرا منها يعود إلى ضعف الدولار، بدأت آراء هؤلاء المراقبين تختفي تدريجيا من الكتابات الاقتصادية في هذا المجال، حتى حدثت أزمة اليونان فأعادت إلى الصورة آراء هؤلاء المراقبين بقوة، وأثبتت أنهم كانوا على صواب عندما تحدثوا عن أن منطقة اليورو ليست بالفعل منطقة عملة مثلى. ولكن ما هي شروط منطقة العملة المثلى؟ تشير نظرية منطقة العملة المثلى، والكتابات المتعددة في هذا المجال، إلى أن أهم هذه الشروط هي:
1. تماثل الدورات الاقتصادية للدول الأعضاء، أي عندما تتعرض المنطقة لضغوط انكماشية، فإن جميع الدول في المنطقة ستعاني من هذه الضغوط، وحينما تتعرض المنطقة لضغوط تضخمية فإن جميع الدول الأعضاء ستواجه الضغوط نفسها وهكذا، حتى لا تكون هناك دولة تواجه كسادا، بينما هناك انتعاش اقتصادي في باقي الدول الأعضاء، على النحو الذي هو حادث اليوم بالنسبة لليونان. تماثل الدورات الاقتصادية في الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي يعد شرطا مهما جدا لتمكين الاتحاد النقدي من أن يتبع سياسة نقدية موحدة بسهولة، حيث يسهل إحداث الاستقرار الاقتصادي المطلوب في الدول الأعضاء كافة، أما عدم تماثل الدورات الاقتصادية فسيجعل من السياسة النقدية الموحدة مشكلة بالنسبة لبعض الدول الأعضاء، حيث ستساعد بعض الدول، بينما ستعقد الأوضاع بالنسبة للبعض الآخر. على سبيل المثال إذا كانت دولة ما تواجه ضغوطا تضخمية، بينما يواجه باقي الدول الأعضاء ضغوطا انكماشية، فإن اتباع سياسة نقدية توسعية لمساعدة الجانب الأكبر من الأعضاء في الاتحاد النقدي سيترتب عليه الإضرار بالدولة التي تواجه ضغوطا تضخمية وسيرفع درجة سخونة اقتصادها. أما إذا كانت دولة ما تعاني ضغوطا انكماشية بينما تواجه باقي الدول الأعضاء ضغوطا تضخمية، فإن تقييد السياسة النقدية سيساعد الدول التي تواجه ضغوطا تضخمية، بينما يعقد الأوضاع في الدولة التي تواجه ضغوطا انكماشية، وهكذا.
2. أن تكون لدى الدول الأعضاء القدرة على امتصاص الصدمات الاقتصادية من خلال مرونة عملية تحديد الأجور والأسعار، وذلك لتمكين الدول من تعديل الأسعار، بصفة خاصة الأجور في حالات الكساد أو الرواج بما يساعد على امتصاص أثر الصدمات الاقتصادية التي يمكن أن يتعرض لها الأعضاء بسهولة، ولقد أثبتت أزمة اليونان أن جمود عملية تحديد الأجور أسهم في إضعاف قدرة اليونان على مواجهة ضغوط الكساد الذي تواجهه.
3. سهولة انتقال عناصر الإنتاج بصفة خاصة عنصر العمل، حتى تقل الضغوط على سوق العمل من خلال سهولة انتقال العمال إلى الخارج (في حالة الضغوط الانكماشية)، أو إلى الداخل (في حالة الضغوط التضخمية)، بما يسهل من امتصاص الدول الأعضاء للصدمات الاقتصادية.
4. تنوع الهياكل الاقتصادية للدول الأعضاء، حيث لا تكون الدول الأعضاء متشابهة في هياكلها الاقتصادية بصفة خاصة هياكل الإنتاج.
5. ضرورة وجود نظام للتحويلات المالية بين الدول الأعضاء خصوصا في أوقات الأزمات، بما يساعد الاتحاد النقدي على التخفيف من أثر أي أزمة تلحق بالدول الأعضاء وتمكين هذه الدول من التكيف مع الأزمة من خلال التحويلات المالية التي تقدم إليها.
لقد كشفت أزمة اليونان التي تواجه حالة كساد وارتفاع في الأجور الحقيقية لعنصر العمل بصفة خاصة، حقيقة أن الاتحاد الأوروبي ليس بالفعل منطقة عملة مثلى، وفي ظل الوضع المتأزم في اليونان كانت الخيارات المتاحة أمامها محدودة جدا، فمن الناحية النظرية عندما تواجه اليونان حالة كساد يمكن لليونان أن تعمل على تخفيض الأجور الحقيقية لعنصر العمل فيها، إما من خلال اللجوء إلى التضخم، أو من خلال تخفيض قيمة العملة الوطنية، وذلك حتى ترفع درجة التنافسية الخارجية لاقتصادها. غير أن احتمال لجوء اليونان لأي من هذين الخيارين كان منعدما للأسف بسبب عضويتها في الاتحاد النقدي، فهي لا تستطيع أن تلجأ إلى الخيار الأول لتخفيض القيمة الحقيقية للأجور في اليونان بهدف تحفيز مستويات النشاط الاقتصادي والخروج من حالة الكساد بسبب عدم سيطرتها على السياسة النقدية لديها، والتي يتم رسمها بصورة مركزية من قبل البنك المركزي الأوروبي، كما أنها لا تستطيع أن تلجأ إلى الخيار الثاني لأنها ببساطة لا تملك عملة وطنية حتى تقوم بتخفيضها لكي تتمكن من أن تعزز من قدراتها على جمع عملات أجنبية تستخدمها في التخفيف من حدة أزمة السيولة التي تواجهها. كإجراء بديل كان يمكن أيضا أن تقوم اليونان بتحفيز الطلب من خلال سياساتها المالية التوسعية المصممة نحو هذا الهدف، غير إن الوضع المالي المتأزم لليونان لم يكن ليسمح لها بأن تقوم بذلك، سواء بسبب القيود المفروضة عليها بسبب الاشتراك في اتحاد نقدي أو بسبب الأعباء المرتفعة لدينها السيادي. آخر خيار متاح أمام اليونان هو أن تشجع العمال اليونانيين على الهجرة إلى الدول المجاورة حتى تتحسن الأوضاع في اليونان ثم يعودون مرة أخرى، وذلك حتى تخفف من الضغوط على سوق العمل فيها وتقلل من الضغوط على ميزانيتها العامة، ومرة أخرى فإن هذا الخيار، على الرغم من التحاق اليونان بالاتحاد الأوروبي، كان مقيدا، بسبب المشكلات التي يمكن أن تواجه المهاجرين اليونان في التكيف بشكل سريع مع بيئة الدول المستقبلة، فضلا عن أن الدول المستقبلة قد لا ترحب بمثل هذه الهجرة في ظل أوضاعها الحالية. أقفلت بالتالي جميع الخيارات أمام اليونان للتعامل مع أزمتها ومحاولة تحسين أوضاعها.
إذا كانت الخيارات المتاحة أمام اليونان مقفلة، فإنه لا مناص أمام الاتحاد النقدي الأوروبي من أن تتم عملية تحويل مالي بين الدول الأعضاء في الاتحاد واليونان لتمكينها من السيطرة على ضغوط نقص السيولة ومواجهة أعباء خدمة دينها. غير أن مبدأ الإنقاذ المالي للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي كان للأسف ضد نص اتفاقية الاتحاد النقدي التي تنص على عدم جواز إنقاذ الدول المضطربة ماليا، ومن ثم أخذت جهود معالجة أزمة اليونان وقتا طويلا من الشد والجذب حتى تم تقديم حزمة الإنقاذ التي يتفق جميع المراقبين على أنها غير كافية لإنقاذ اليونان من وضعها المتردي.
الاقتصادي الشهير بول كروجمان يرى أن الأزمة اليونانية كشفت عن أن الاتحاد النقدي الأوروبي ليس منطقة عملة مثلى بسبب عدم وجود سلطة مالية مركزية في دول الاتحاد النقدي الأوروبي، والتي يمكنها من أن تقوم بإعادة توزيع الإيرادات العامة بين الدول الأعضاء على صورة تحويلات مالية من ألمانيا وفرنسا مثلا إلى اليونان، باعتبارها شرطا أساسيا لمنطقة العملة المثلى، مثلما هو الحال في الولايات المتحدة، حيث تقوم السلطات المالية المركزية بتقديم الدعم للولايات في أمريكا عند تعرضها لضغوط مالية حادة. من جانب آخر يرى الاقتصادي مانكيو أن نجاح الولايات المتحدة كمنطقة عملة مثلى لم يكن راجعا أساسا إلى وجود سلطة مالية مركزية فقط، بقدر ما كان راجعا إلى مرونة عملية تحديد الأجور والأسعار في الولايات المختلفة وسهولة انتقال عنصر العمل بين الولايات في أمريكا، وأن هذين العاملين تفتقدهما دول الاتحاد النقدي الأوروبي. الخلاصة: لقد كشفت الأزمة اليونانية عن حقيقة أن الدول الأعضاء في اليورو لا تمثل حالة منطقة عملة مثلى، وأن الآمال بتحسن الأوضاع مستقبلا ليست ضمانا كافيا لتجنب الأزمات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي