بانوراما التمويل في المملكة

مر العالم وخلال سنتين فقط (2008م إلى 2010م) بأسوأ أزمة مالية يشهدها خلال الثمانين عاماً الماضية. ولم ينقشع غبارها حتى اليوم كي نستطيع الحديث عنها كتاريخ، حيث تجددت المخاوف بعد أزمة اليونان التي أصبحت أزمة أوروبية بامتياز، وإن كنت أرى أنها فرصة كبيرة لأوروبا، رغم أنه قد تتطاير تأثيراتها السلبية لتشمل العالم ليس من حيث تأثيرها مباشرة، ولكن من حيث الضبابية على الشكل الاقتصادي للعالم مع أزمة هكذا. في المقابل جاءت الأزمة وقد مرت المملكة وعلى المستوى المحلي بتطورات كبيرة لا يمكن تجاهلها منذ أكثر من خمسة أعوام، وتحديدا منذ تولي خادم الحرمين الشريفين مقاليد الحكم في هذه البلاد المباركة، وتحديداً يوم الأربعاء 26 جمادى الآخرة 1431هـ  الموافق 09 حزيران (يونيو) 2010م، والنتيجة أنه بالقدر الذي هناك جهود جبارة للتحديث وإعادة قراءة الأمور على المستويات كافة، بالقدر الذي تزيد فيه التحديات علينا في سبيل إيجاد مكان لنا في خريطة تتحرك اليوم في طريقها لتتشكل بتوزيع جديد للعالم! في ظني هذا هو مصير الأمم الحية، أما الميتة فهي ميتة، وبالتالي انتهت الرواية كما يقال. حيث نتمنى أن نعكس ما جاء في قصيدة الشاعر غازي القصيبي رداً على قصيدة كتبها الراحل نزار قباني باسم متى يعلنون وفاة العرب: نزارُ! أزفُّ إليك الخَبَرْ! لقد أعلنوها.. وفاَة العربْ.. وقد نشروا النعْيَ .. فوق السطورِ .. وبين السطورِ .. وتحت السطورِ عبْرَ الصُوَرْ!
لقد أثبت الملك أن هناك إمكانية وأن هناك أملا إذا ما خلصت النوايا وهمشت الأنا، وأن كلام نزار وتأكيد غازي ليس قدراً محتوماً. وإن كان المشوار طويلا ولكن يجب أن يكون هناك أمل!
لقد مرت المملكة خلال نصف قرن بتطورات كبيرة على الأصعدة كافة. وفي مجال التمويل تحديداً الذي يعد محركا رئيسيا لكل خطط التنمية السابقة. فدون هذا التمويل المباشر وغير المباشر سواء لقطاع الأعمال أو للمواطن مباشرة، ما كان بالإمكان تحقيق الأهداف التنموية في أبعادها المختلفة كافة. لإعطاء صورة عامة عن تركيبة التمويل اليوم في المملكة ونحن في عام 2010م، نجد أن هناك أربعة مصادر للتمويل في المملكة منها ثلاثة رئيسية: المصدر الأول التمويل الحكومي الذي يأتي من صندوق الاستثمارات العامة والصناديق التنموية الأخرى، وقد اقترب حجم التمويل ''القائم'' منه نحو 600 مليار ريال. ولا يزال هذا التمويل يمثل المصدر الأول للتمويل والتنمية مدعوماً بإيرادات نفطية قوية وحجم إنفاق أيضا قوي لتنفيذ مشاريع ضخمة في البنى التحتية وفي إيجاد مشاريع يخطط لها لتكون مصدر دخل في المستقبل للدولة بعد تراجع إيرادات النفط.
فيما يأتي المصدر الثاني من القطاع المصرفي الذي تجاوز حجم التمويل ''القائم'' اليوم 750 مليار ريال، وهو عنصر ثان وداعم مهم للعنصر الأول. وإن كان مستوى الرضا العام عن هذا المصدر متدنيا لأسباب أعتقد أنها غير منطقية وغير مبررة! وإذا عرف السبب بطل العجب. ويمثل التمويل الاستهلاكي من هذا التمويل نحو 200 مليار ريال، وهو ما يعادل 26.7 في المائة من هذا التمويل. وهي نسبة تعد معقولة.
أما المصدر الثالث للتمويل وهو مصدر يعد غير رسمي وإن كان في بعض فروعه ''نظاميا'' (بمعنى أنه مرخص له)، وهو ما أصبح يعرف اليوم بقطاع التقسيط والبيع بالآجل، والذي برز أخيرا نتيجة عامل بسيط وهو أنه غير خاضع لأي نوع من أنواع التنظيم أو الإشراف، وبالتالي لا تحكمه أنظمة تحد من قراراته أو رغباته في التوسع، ومع الأسف لا توجد أرقام رسمية حول حجم التمويل من هذا المصدر وإن كانت هناك اجتهادات لدراسات، وقد نشرت دراسة شخصية عن شركات التقسيط قبل نحو عامين أو أكثر رجحت أن حجم التمويل من هذا المصدر يتجاوز 100 مليار ريال (متحفظ جداً) وإذا ما تمت إضافة البيع بالآجل نجد أنه قد يتجاوز 150 مليار ريال على 200 مليار ريال. فيما يتجاوز عدد اللاعبين حسب بيانات وزارة التجارة 380 شركة تقسيط! والجدير بالذكر أن كل هذا التمويل يذهب لأغراض استهلاكية وليست إنتاجية.
والمصدر الرابع هو الصكوك والسندات التي من الواضح أن هناك رغبة في تطويرها، وبالذات تلك الصادرة من الشركات الكبيرة، على أمل خلق سوق ثانوي للتمويل وبالذات مع التوجهات فيما يخص التطوير العقاري، السكني منه على وجه الخصوص. ولكنه مصدر بحاجة إلى حديث طويل ومفصل.
وبالتالي نجد أن حجم التمويل من مصادره الثلاثة الرئيسة في المملكة يتجاوز 1450 مليار ريال (تريليون وأربعمائة وخمسون مليار ريال)، وهو ما يعادل نحو 82.5 في المائة من الناتج المحلي (بالأسعار الجارية) لعام 2009. أما لو أخذنا نسبة التمويل من المصدر الأول وهو الحكومي نجد أنه يمثل نحو 34 في المائة من الناتج المحلي، والمصدر الثاني يمثل نحو 42.7 في المائة من الناتج المحلي، فيما المصدر الثالث وعلى افتراض أنه نحو 100 مليار ريال فإنه يمثل نحو 5.7 في المائة. ولكن نجد أن المنشآت القادرة على الاستفادة من المصدر الأول أو الثاني للتمويل لا تتجاوز 7.8 في المائة من عدد المنشآت العاملة حسب بيانات التأمينات الاجتماعية التي لديها نحو 192 ألف منشأة مسجلة. والخلل هو كما قلنا نتيجة مستوى المهنية التي يعيشها القطاع الخاص، وبالذات المنشآت الصغيرة والمتوسطة التي هي بحاجة إلى إعادة هيكلة حقيقية حتى تكون إضافة لا عبئا على اقتصاد المملكة.
وملاحظاتي على تركيبة التمويل في المملكة كما يلي:
أولا: لا تزال الدولة وبعد مرور ما يقرب من نصف قرن على التوسع في خطط التنمية المصدر الأول للإنفاق ولحركة الاقتصاد، ودونها تصاب كل القطاعات بشلل كبير. وهو أمر يجب إعادة النظر فيه. ويعد إحدى السلبيات التي تؤخذ على اقتصاد المملكة. وإن كان يحقق أهدافا سياسية للمملكة، ولكنه أيضا يشكل خطرا على القدرة على الاستمرار. قد كانت هناك تجارب سابقة عندما تراجعت أسعار النفط وتوقف الإنفاق الحكومي، أصبح هناك شبه ركود في اقتصاد المملكة. ومنتصف التسعينيات شاهد على ذلك بعد حرب الخليج!
ثانياً: تنوع أغراض التمويل وبالذات الممنوحة من المصدرين الأول والثاني (الحكومي والمصرفي) فنجد أن تركيبة التمويل موجهة إلى الشركات الكبيرة جداً والتي حصلت على ما يزيد على 73 في المائة من حجم التمويل المصرفي. والباقي ذهب للتمويل الاستهلاكي الفردي. فيما المنطقة التي تمثل أكثر من 85 في المائة من عدد المنشات في المملكة وحسب بيانات وزارة العمل 99 في المائة نجد أنها غير قادرة على الحصول على تمويل حتى من الحكومة. ولأسباب منطقية تتجسد في تركيبة القطاع الخاص ومستوى المهنية والشفافية وعناصر كثيرة ليس المجال هنا لشرحها. وقد سميت ''قطاع الوكالات والإتاوات''. فيما التمويل الحكومي خاضع لقرارات سيادية!
ثالثا: وجود مصدر ثالث للتمويل أمر طيب وضروري ولكن عدم وجود تنظيم لهذا المصدر يفعل ما يشاء لا من ناحية طريقة التمويل أو مصادر الأموال التي يقرضها، ولا من ناحية القدرة على تطبيق السياسة النقدية والمالية من خلال هذا المصدر لعدم القدرة على التحكم فيما يفعله، كما هي الحال في القطاع المصرفي. حيث توجد الأدوات التي تساعد على التحكم فيه في حالات التوسع أو الرغبة في الانكماش. أما المصدر الرابع فيما لا نزال نتحاور على شرعيتها وعلى أمور أعتقد أنها ثانوية! والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي