تعليمنا .. وتأنيث المذكر

تحدثت في مقالٍ سابق عن اختلاط التعليم، وأن ثمة أقلاماً تحاول خلط الأوراق نتيجة اختلاط المفاهيم لدى عقول أصحابها، ويبدو أننا في عصر يُراد فيه أن يستنوق الجمل، كما قال طرفة بن العبد. والمتابع للمشهد الثقافي يرى استماتة بعض الأقلام النشاز في دفع المرأة إلى أتون صراعات مصطنعة وإسباغ الصفة الحقوقية عليها؛ واختزال هذه الحقوق في قيادة المرأة السيارة والاختلاط في التعليم. ولا أعلم كيف خوّلت هذه الأصوات لنفسها التحدث باسم المرأة مع إصرارها في إقصاء صوتها وتغييبه، في الوقت الذي يغض الطرف عن هموم المرأة وقضاياها الفعلية، وعلى سبيل المثال، أهمية تأنيث وظائف أعضاء هيئة التدريس ومَن في حكمهم من محاضرات ومعيدات لتدريس بنات جنسهن في التعليم العالي، ولا سيما ونحن نشهد توسعاً في الجامعات السعودية.
ولقد تعجبت كثيراً من تصريح المتحدث باسم وزارة التربية والتعليم الدكتور فهد الطيّاش لجريدة «المدينة» الإثنين، 31 أيار (مايو) 2010 حول تأنيث الصفوف الأولية من المرحلة الابتدائية والذي يمكن إجمال تصريحه في النقاط التالية:
1 ــ تدريس الطلاب في الصفوف الأولية من قبل المعلمات ليس منكراً يؤخذ فيه رأي العلماء.
2 ــ القرار مطبق منذ سنوات في المدارس الأهلية.
3 ــ التوسع في التطبيق في المدارس الأهلية التي لديها إمكانية.
4 ــ تأكيده أن هذه خطوة لتعزيز العملية التعليمية شأنها شأن تدريس اللغة الإنجليزية.
5 ــ إن هذا القرار لن يطبق في المدارس الحكومية لأن اللائحة الحالية لا تجيز هذا مطلقاً.
ولعلنا بعد هذا نناقش الدكتور الطيّاش في هذه النقاط:
1 ــ من محاسن وزارة التربية والتعليم ومنذ سنوات أنها استطاعت أن تجعل التعليم هماً مجتمعياً، وسعت الوزارة - مشكورة - إلى التشاركية من قبل مؤسسات المجتمع المختلفة وأطيافه وشرائحه بمن فيهم علماء الشريعة. وهنا الدكتور الطيّاش يصادر هذا التوجه ويقصي رأي الفئات المستفيدة من التعليم، ثم ليس بالضرورة أن هذا الأمر منكر أو محرّم، لكن التجارب العالمية والمآلات التربوية لا تؤيد هذا القرار البتة.
2 ــ رقما (2) و(3) يناقضان (5) ويصادمانه، فقول الطيّاش إن القرار مطبق منذ سنوات في المدارس الأهلية، وسوف يتوسع في التطبيق يخالف قوله إن اللائحة (سياسة التعليم) لا تجيز هذا مطلقاً.
3 ــ تأييده أن هذه الخطوة تعزز العملية التعليمية يجب أن يكون مستنداً إلى دراسات وتجارب علمية منهجية، وهذا ما لا يؤيده واقع التجارب الدولية.
4 ــ تسمية الدكتور سياسة التعليم باللائحة و(الحالية)! نوع من تمرير هذه المخالفة لسياسة التعليم والتي نصت في المادة 155 في السياسة العامة للتعليم ما نصه «يمنع الاختلاط بين البنين والبنات في جميع مراحل التعليم إلا في دور الحضانة ورياض الأطفال، ولم تفرق السياسة بين التعليم الحكومي والأهلي، ومن بديهيات الأنظمة والقوانين التفريق بين السياسة العامة واللوائح، ثم التعبير بكلمة (الحالية) هو الآخر أشد مخالفة لأن السياسات العامة تتسم بالثبات، ولا سيما أن سياسة التعليم في المملكة نبراس يفترض أن نقدمه للعالم من حولنا.
ولعلنا بعد هذا نشير إلى واقع العالم الغربي ونرى تجاربه في تأنيث الصبيان وما الثمرات التربوية التي جنوها من هذا التأنيث؟ ففي بريطانيا، أخذت تتزايد أعداد المعلمات في الصفوف الدنيا منذ عقود عدة مضت، حتى أصبحت الصورة النمطية أن الصفوف الدنيا تناسب المعلمات. وكان هذا التوجه متوازياً تاريخياً مع أوج ضغوط الحركات النسوية، وخصوصاً بعد الستينيات، وهي النقطة التاريخية التي يرى المؤرخون الغربيون أنها المفصل الزمني الحاسم في أكثر التغيرات الاجتماعية الغربية، وخصوصاً ما يتعلق بوضع المرأة من لباس وعمل وعلاقات الاقتران.
وفي السنوات الأخيرة ظهرت عدة أبحاث تدرس (آثار غياب المعلم الرجل على شخصية الطالب في الصفوف الدنيا في بريطانيا) وكانت المسألة محل جدل، لكن كثيراً من هذه الأبحاث أظهر خطر هذه الظاهرة، وحاجة الطالب الذكر إلى المعلم الرجل. وكانت هذه الأبحاث تدور حول بناء الثقة لدى الطالب، وحتى تستطيع البيئة التعليمية أن تقدم قدوة Role model تتناسب مع شخصية الطالب الذكر، وأشارت الدراسات إلى مفهوم ثقافة الرجل Lad culture وعلاقة مثل هذه الأجواء النسوية بها.
المهم في القضية أن المؤسسة الرسمية المعنية في بريطانيا، وهي وكالة التطوير والتدريب للمدارس TDA، استندت إلى هذه الأبحاث واتخذت قراراً بزيادة أعداد المدرسين الرجال لاستنقاذ التكوين التربوي للصبيان في الصفوف الدنيا (نقلت الوكالة خلاصة هذه الدراسات في موقعها الرسمي على الشبكة www.tda.gov.uk فيمكن مراجعتها من هناك).
وفي أواسط العام الماضي 2009 أطلقت الوكالة ذاتها TDA حملة فعاليات في المدارس البريطانية لتشجيع المدرسين الذكور وإقناعهم بالتعليم في الصفوف الدنيا. وفي شهر تموز (يوليو) تحديداً من عام 2009 تصور الكاتبة «آسثانا» هذه الحملة التي تقودها وكالة TDA الرسمية بقولها: «الدفع الأضخم لزيادة أعداد المعلمين الذكور في الصفوف الأولية تم إطلاقه هذا الأسبوع في محاولة للتغلب على الشح الحاد في المعلمين الذكور، الذي يقول الخبراء إنه يؤثر في الصبيان. المئات من الرجال سيحضرون الفعاليات في المدارس حيث يوجد المديرون والوكلاء والمدرسون لإقناعهم بالعمل في هذه المهنة» 12Jul2009 ,Guardian.
وتنقل الكاتبة المهتمة بشؤون التعليم «ليبست» عن بعضهم قولهم (إن نقص المعلمين الذكور في الصفوف الأولية يعني أنه لن يكون لديهم تواصل منتظم بالرجال حتى سن الحادية عشرة!). 23Mar2009 ,Guardian.
بل حتى فرنسا التنوير والحرية والثورة العلمانية وفي عهد رئيسها البرجوازي نيكولا ساركوزي تعود نحو الفصل بين الجنسين فقد أقرّ البرلمان الفرنسي قبل أيّام، ضمن سلسلة إصلاحات النظام التربوي قانوناً يتضمّن بنداً يسمح بـ «إعادة فصل الجنسين في المدارس»، بحيث يصبح للإناث صفوف منفصلة عن صفوف الذكور.
ألا نخجل بعد هذا من الحديث عن تأنيث المذكر واستنواق الجمل؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي