إعادة التنظيم المالي والديمقراطية
لقد استغرق الأمر ما يقرب من العامين منذ انهيار «ليمان براذرز»، وأكثر من ثلاثة أعوام منذ بداية الركود العالمي الذي جلبته علينا الآثام التي ارتكبها القطاع المالي، قبل أن تبدأ الولايات المتحدة وأوروبا أخيراً في إصلاح التنظيم المالي.
وربما ينبغي لنا أن نحتفل بالانتصارات التنظيمية التي تحققت في كل من أوروبا والولايات المتحدة. فهناك إجماع شبه عالمي على أن الأزمة التي يواجهها العالم اليوم, التي من المرجح أن يستمر في مواجهتها لأعوام أخرى, كانت ناتجة عن تجاوزات حركة إلغاء القيود التنظيمية التي بدأت في عهد مارجريت تاتشر ورونالد ريجان قبل 30 عاما. والواقع أن الأسواق المتحررة من القيود لم تكن فاعلة ولا مستقرة.
بيد أن المعركة ـ حتى النصر ـ خلفت غُصة في الحلق. ذلك أن أغلبية هؤلاء المسؤولين عن الأخطاء، سواء في مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، أو وزارة الخزانة الأمريكية، أو بنك أوف إنجلاند وهيئة الخدمات المالية في بريطانيا، أو المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، أو في البنوك الفردية، لم يقروا بذنبهم ولم يعترفوا بأخطائهم.
إن البنوك التي عاثت فساداً في الاقتصاد العالمي كانت تقاوم ضرورة القيام بما يجب عليها أن تقوم به. والأسوأ من ذلك أنها تلقت الدعم من مجلس الاحتياطي الفيدرالي, الذي كان المرء ينتظر منه أن يتبنى موقفاً أكثر حذراً، نظراً لحجم الأخطاء الماضية والمدى الذي بات معه, من الواضح أنه يعكس مصالح البنوك التي كان من المفترض أن يعمل على تنظيمها.
وهذا يشكل أهمية بالغة، ليس فقط باعتباره أمرا يتعلق بالتاريخ والمسؤولية: فكثير من الأمر متروك للجهات التنظيمية. وهذا يترك الباب مفتوحاً أمام تساؤل آخر: هل بوسعنا أن نثق بهذه الأجهزة التنظيمية؟ في اعتقادي أن الإجابة هي النفي القاطع الذي لا لبس فيه، وهذا هو السبب الذي يجعلنا في احتياج إلى تفعيل مزيد من الأطر التنظيمية. بيد أن النهج المعتاد ـ إناطة المسؤولية إلى الأجهزة التنظيمية وترك التفاصيل لها ـ لن يفلح.
وهذا يثير تساؤلاً آخر: بمن نستطيع أن نثق؟ في الأمور الاقتصادية المعقدة كانت الثقة توكل إلى المصرفيين (فما داموا ناجحين في جمع كل هذه الأموال فمن الواضح أنهم يعرفون شيئاً ما!)، والقائمين على التنظيم، الذين كثيراً ما يأتون من الأسواق ولكن ليس دوماً. إلا أن الأحداث التي وقعت في الأعوام الأخيرة أثبتت أن المصرفيين ربما كانوا قادرين على جمع كميات هائلة من المال، حتى وهم يقوضون الاقتصاد ويكبدون شركاتهم خسائر جسيمة.
كما أثبت المصرفيون أنهم «معيبون أخلاقياً». وستقرر المحاكم القانونية إذا ما كان سلوك بنك جولدمان ساكس, الذي راهن ضد منتجات من صنعه, قانونيا. لكن محكمة الرأي العام أصدرت قرارها بالفعل فيما يتصل بالمسألة الأشد عمقاً والتي ترتبط بالأخلاقيات التي كانت وراء ذلك السلوك. كان الرئيس التنفيذي لـ «جولدمان» ينظر إلى نفسه وكأنه «يقوم بعمل الرب» حين باعت شركته على المكشوف منتجات من صنعها، أو حين أنكرت الشائعات السفيهة حول الدولة التي قيل إنه يعمل «مستشاراً» لها، وهذا يشير إلى وجود كون موازٍ يعمل وفقاً لأعراف وقيم مختلفة.
وكما هي الحال دوماً فإن «الشيطان يكمن دوماً في التفاصيل»، ولقد بذلت جماعات الضغط في القطاع المالي قصارى جهدها لك تضمن أن تفاصيل القيود التنظيمية الجديدة ستعمل لمصلحة أصحاب العمل الذين تمثلهم هذه الجماعات. ونتيجة لهذا فمن المرجح أن يمر وقت طويل قبل أن نتمكن من تقييم نجاح القانون الذي سيقره كونجرس الولايات المتحدة في النهاية، أياً كان.
لكن معايير الحكم واضحة: فلا بد أن يعمل القانون الجديد على كبح الممارسات التي تعرض الاقتصاد العالمي برمته للخطر، وأن يعيد توجيه النظام المالي نحو المهام التي تليق به ـ إدارة المجازفة، وتخصيص رؤوس الأموال، وتوفير الائتمان (خاصة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم)، وتشغيل نظام مدفوعات يتسم بالكفاءة.
وينبغي لنا أن نشرب نخب النجاح المحتمل: سيتأسس شكل من أشكال اللجان المسؤولة عن سلامة المنتجات المالية؛ وستنتقل مزيد من المشتقات التجارية إلى أسواق البورصة وتنتقل شركات المقاصة من السوق «الآجلة» الغامضة؛ وسيتم تقييد بعض من أسوأ ممارسات الرهن العقاري. ويبدو من المرجح فضلاً عن ذلك أن الرسوم الفاحشة التي يتم تقاضيها في مقابل كل تعامل مدين ـ التي تشكل نوعاً من الضريبة التي لا تخصص عائداتها لخدمة أي غرض عام, بل تخصص لتعبئة خزائن البنوك بالأموال ـ سيتم بترها.
لكن الفشل المحتمل جدير بالذكر أيضاً: فقد أصبحت مشكلة البنوك الأضخم من أن يُسمَح لها بالفشل أكثر تعقيداً من أي وقت مضى أثناء الأزمة. وزيادة سلطة اتخاذ القرار من شأنها أن تساعد في هذا السياق لكن بقدر ضئيل: ففي الأزمة الأخيرة، فشلت حكومة الولايات المتحدة في استخدام سلطاتها، وسارعت بلا ضرورة إلى إنقاذ حاملي الأسهم وحاملي السندات ـ وكل هذا لأنها كانت تخشى تقاعسها عن ذلك من شأنه أن يقود الاقتصاد إلى صدمة مهلكة. وما دامت هناك بنوك أضخم من أن يُسمَح لها بالإفلاس فمن المرجح أن تفشل الحكومة في استخدام سلطاتها مرة أخرى.
ليس من المستغرب أن تنجح البنوك الضخمة في منع بعض الإصلاحات الأساسية؛ أما المدهش في الأمر حقاً فهو تلك الفقرة الواردة في مشروع القانون المعروض على مجلس الشيوخ الأمريكي, الذي حظر على الكيانات المؤمن عليها حكومياً من التعهد بتمويل مشتقات مالية عُرضة للمجازفة. إن مثل هذه التعهدات المؤمنة من قِبَل الحكومة تعمل على تشويه السوق، وتمنح البنوك الضخمة ميزة تنافسية إضافية، وليس بالضرورة لأنها أكثر كفاءة، بل لأنها «أضخم من أن يُسمَح لها بالإفلاس». إن دفاع مجلس الاحتياطي الفيدرالي عن البنوك الضخمة ـ وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة للمقترضين حتى يتمكنوا من تغطية عامل المجازفة ـ يكشف عن مدى تحوله إلى أسير. إن التشريع لم يكن المقصود منه حظر المشتقات المالية، بل حظر الضمانات الحكومية الضمنية، المدعومة بأموال دافعي الضرائب (هل تذكرون أن عملية إنقاذ المجموعة الدولية الأمريكية AIG، تكلفت 180 مليار دولار؟)، التي لا تشكل نتاجاً ثانوياً طبيعياً أو محتماً للإقراض.
وهناك عديد من الطرق التي ربما نستعين بها لكبح تجاوزات البنوك الضخمة. وربما ننجح في أداء هذه المهمة بالاستعانة بنسخة قوية مما يطلق عليه «قاعدة فولكر» (المصممة لإرغام البنوك التي تؤمن عليها الحكومة على العودة إلى وظيفتها الأساسية المتمثلة في الإقراض). لكن حكومة الولايات المتحدة ستكون مقصرة إذا تركت الأمور كما هي الآن.
إن الفقرة الخاصة بالمشتقات في قانون مجلس الشيوخ ربما يصلح كاختبار جيد: ذلك أن إدارة أوباما ومجلس الاحتياطي الفيدرالي، في معارضتهما فرض مثل هذه القيود، وقفا بوضوح في صف البنوك الضخمة. وإذا ظلت القيود الفاعلة على عمل البنوك المؤمنة حكومياً في المشتقات قائمة في النسخة النهائية من مشروع القانون (سواء كان ذلك لأن هذه البنوك مؤمن عليها فعلياً أو لأنها أضخم من أن يُسمَح لها بالإفلاس) فإن المصلحة العامة ربما تتفوق في النهاية على المصالح الخاصة، وربما تنتصر القوى الديمقراطية على جماعات الضغط التي يحركها المال.
لكن إذا تم حذف هذه القيود، كما يتوقع أغلبية الخبراء، فسيكون يوماً حزيناً بالنسبة للديمقراطية ـ ويوماً أشد حزناً بالنسبة لآفاق الإصلاح المالي الحقيقي.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010.
www.project-syndicate.org