متطوع .. حتى آخر قطرة !

لولا أن عينيه رمشتا من خلف تلك النظارة المقعرة لقلت إن الذي أمامي ما هو إلا تمثال لعجوز تجاوز الثمانين عاماً؛ فتجاعيد وجهه وانكماش شفتيه وسكونه جعلتني أشك في مدى حياة ذلك الرجل ..! كما أنه عندما تكلم كان هذا دليلاً آخـر عـلى أنه ما زال على قيد الحياة، وانتهى شكي بحياته عندما ابتسم، فأيقنت أني أمام كائن حي متفاعل مع البيئة التي حوله.
ذلك الرجل الطاعن في السن كان بائعاً في (بوفيه) صغير تعود ملكيته إلى جمعية خـيريـة داخـل أحد المستشـفيات البـريطـانـية. كل ما سـبق استـرعى تعجبي، إلا أن ما استدعى إعجابي تلك القطعة الصغيرة التي علقها الرجل على صدره، وقد كتب عليها بخط واضح: (متطوع). ثم كتب تحتها (يرجى الكلام بوضوح عند مخاطبته).
نعم! لقد كان هذا الشخص متطوعاً في جمعية خيرية ينفق من وقته ثلاثة أيام في الأسبوع بلا مقابل مادي سوى أنه متطوع. عرفت بعد حديثي معه أنه يتطوع لصالح تلك الجمعية الخيرية إيماناً منه بأهمية الدور الذي تقوم به، وأيضاً ليخالط الناس ويخاطبهم حفظاً على ما تبقى من حاسة السمع لديه.
كان هذا هو المشهد، وإليكم التحليل:
إن توظيف طاقات أفراد المجتمع واستثمارها في الأعمال التطوعية ليست فقط كلمات تُشحَذ بها الهمم وعبارات تُهَيَّجُ بها العواطف، إنه نظام مؤسسي متكامل يراعي قدرات المتطوع وإمكاناته ليسد بها حاجات محددة مسبقاً لدى المجتمع ومنظماته الخيرية. هذا النظام الذي يمزج بين قدرات الراغبين في التطوع وحاجات المنظمات الخيرية قائم على الإجابة عن أسئلة منطقية مثل: مَنْ، وكم، ومتى، وأين نريد المتطوعين؟
إن كثيراً من حالات فشل بعض المنظمات الخيرية في استثمار طاقات المتطوعين والمحافظة عليها ناتج من عدم وجود رؤية واضحة في التعامل مع المتطوعين، والمؤمَّل أن تتحول القناعات الذهنية المحمودة التي يحتفظ بها رواد العمل الخيري بأهمية المتطوعين إلى برامج وأنظمة إدارية تمارَس على أرض الواقع.
لكن اللوم لا يقع بأكمله على المنظمات الخيرية ذاتها فالجهات الحكومية المسؤولة عن العمل التطوعي ومشتقاته عليها مسؤولية كبيرة في إيجاد نظام متكامل ومحفز لإثارة الكوامن التطوعية والدوافع الخيرية في أفراد المجتمع وشرائحه وتوجيهها نحو برامج ومشاريع مجتمعية مثمرة، إن الفضاء التطوعي رحب كرحابة الوطن وواسع كاتساع أراضيه لكن الواقع التطوعي المحلي محدود وأغلب القدرات التطوعية معطلة ولا يوجد تفسير منطقي لذلك.
فاصلة:
إنه إبداع ولا شك عندما تستثمرطاقات متطوع ناهز الثمانين عاماً في وقت نفشل في جذب طاقات شباب وشابات يحملون بين جنباتهم رغبة وقدرة ومتسعاً من الوقت.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي