ثقافة حقوق الإنسان
طالعتنا وسائل الإعلام قبل أيام بخبر افتتاح الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا المتحف الكندي لحقوق الإنسان في وينيبج المدينة الواقعة في الجنوب الأوسط لكندا، وأزاحت الملكة إليزابيث الستار عن حجر أساس المتحف، الذي لم ينته بعد، الذي يمتلئ بالرمزية الخاصة بحقوق الإنسان، ويضم المتحف حجراً من مدينة رينميد في إنجلترا، حيث وقّعت وثيقة الماجنا كارتا عام 1215.
جاء هذا الاحتفاء الأوروبي الإنجليزي بهذه الوثيقة، على الرغم من أنها ذات بُعد معنوي أكثر من أي شيء آخر، ومن سبر تاريخ أوروبا يجد الفترة التي تلت هذه الوثيقة لم تكن أبداً يوتوبيا (قارة فاضلة)، بل كان قدر هذه القارة الشمطاء الصراعات المريرة والحروب الطاحنة سواءً كانت عرقية أم دينية، وحسبكم الحربان العالميتان، وحرب الـ200 عام بين الكاثوليك والبروتستانت، ونظام الإقطاع التي كانت أوروبا التي يعيش 99 في المائة من أهلها عبيداً ورقيق أرضٍ وفلاحين لا يستطيع أحدهم أن يتنفس الهواء خارج إقطاعيته، هذا فيما يتعلق بالإنسان الأوروبي، أما ما سواه فليس له في حسه حقوق، والمستعمرات (المستخربات) خير شاهد، وتجارة الرقيق الإفريقي وصمة عار في جبين الأوروبي، أما الواقع المعاصر، فحقوق الإنسان في ردهات المنظمات العالمية سياسية أكثر منها أي شيء آخر، وفي أحسن أحوالها انتقائية ميكافيلية تسعى إلى فرض أجندتها ورؤيتها دون النظر إلى الاختلاف الفكري والتباين الثقافي للأمم والشعوب الأخرى. وعلى الرغم من هذا السجل الحافل بالاعتداء على الإنسان وحقوقه، إلا أننا نجد ثمة نبلاء ينادون بحفظ حقوق الإنسان وحمايتها دون تحيز لعرق أو جنس أو دين، ولكم ـ معاشر القراء ـ أن تتأملوا البون الشاسع والمسافة الزمنية بين إعلان حقوق الإنسان في الحضارة الإسلامية التي جاءت رحمة للإنسان والبشرية جمعاء وبين أقدم وثيقة غربية، وهي وثيقة الماجنا كارتا 1215. ولعلنا هنا نورد شيئاً من تاريخ الخلفاء الراشدين في حفظ حقوق الإنسان؛ حتى تتضح المساحة الزمنية بين الحضارتين. تذكر كتب التاريخ أن جبلة بن الأيهم الغساني لما أراد أن يسلم كتب إلى عمر بن الخطاب يعلمه بذلك ويستأذنه في القدوم عليه، فسرّ عمر لذلك والمسلمون، فكتب إليه: أن أقدم ولك ما لنا وعليك ما علينا، فخرج جبلة في 500 فارس، فلما دنا من المدينة لبس جبلة تاجه وألبس جنوده ثياباً منسوجة من الذهب والفضة، ودخل المدينة فلم يبق أحد إلا خرج ينظر إليه حتى النساء والصبيان، فلما انتهى إلى عمر رحَّب به وأدنى مجلسه! ثم أراد الحج، فخرج معه جبلة، فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطيء على إزاره رجل من بني فزارة فحلّه، فالتفت إليه جبلة مغضباً، فلطمه فهشم أنفه، فاستعدى عليه الفزاري عمر بن الخطاب، فبعث إليه فقال: ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك هذا الفزاري فهشمت أنفه! فقال: إنه وطيء إزاري فحلّه؟ ولولا حرمة البيت لضربت عنقه، فقال له عمر: أما الآن فقد أقررت، فإما أن ترضيه، وإلا أقدته منك. قال: أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة! قال عمر: يا جبلة، إنه قد جمعك وإياه الإسلام، فما تفضله بشيء إلا بالتقوى والعافية، قال جبلة: والله لقد رجوت أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية، قال عمر: دع عنك هذا، فإنك إن لم ترض الرجل أقدته منك، قال جبلة: إذن أتنصر، قال: إن تنصرت ضربت عنقك. فقال جبلة: أخّرني إلى غدٍ يا أمير المؤمنين. قال: لك ذلك، ولما كان الليل خرج جبلة وأصحابه من مكة، وسار إلى القسطنطينية فتنصّر، ثم إن جبلة طال به العهد في الكفر فتفكر في حاله فجعل يبكي وأنشأ يقول:
تنصرت الأشراف من عار لطمة
وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة
وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني
رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة
وكنت أسير في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة
أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
12 قرناً من التيه والتخبط والانحطاط البشري لتدرك أوروبا حقوق الإنسان، ومع ذلك كل المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان يكتنفها القصور والتناقض والتسيس في ظل إصرار الغرب على إقصاء الإسلام ومحاربته، هذا على المشهد العالمي، أما على المشهد المحلي فما أحوجنا إلى بعث حقوق الإنسان، أقول بعث لأن حقوق الإنسان جزء لا يتجزأ من الإسلام. ولا بد هنا من الإشارة والإشادة ببرنامج نشر ثقافة حقوق الإنسان والمُقر من المقام السامي، هذا البرنامج الذي جاء بأهداف سامية ورؤى شاملة ورسالة طموحة تسعى إلى التوعية بحقوق الإنسان وسنّ كل الأنظمة التي من شأنها حفظ الحقوق وعدم انتهاكها، هذا البرنامج الذي بدأ هذا العام 1431هـ وينتهي عام 1434هـ.
إن ثقافة حقوق الإنسان ليست ترفاً فكرياً ولا طفرةً ثقافيةً، بل هي ممارسة واعية بالدرجة الأولى تتضمن الوعي بهذه الحقوق والمحافظة عليها وحمايتها.