التعليم العالي في الشرق الأوسط في خدمة اقتصاد المعرفة

بداية نقول: إن الجامعات استجابت لمتطلبات العولمة، غير أن هناك اتجاها صاعدا باتجاه ما يمكن أن يمسى الأقلمة الكونية الجديدة new global regionalism في شمال أمريكا وشرق وجنوب غرب آسيا وأمريكا اللاتينية ودول الخليج والشرق الأوسط وكذلك في إفريقيا. وفي هذا المشهد الجديد، يمكن أن نشهد أقاليم أخرى من حول العالم تبني شبكات إقليمية أقوى، وشراكات تناسب حركة الطلبة الدولية، وبرامج دراسات في الخارج، وتعليما عاليا عابر القويمات، وكذلك حركة متسارعة في البحث والتكنولوجيا بين الجامعات على مستوى الإقليم والأعمال ووكالات الحكومة.
وهذا التطور باتجاه الأقلمة الكونية يمكن له أن ينمو وبشكل تدريجي في السنوات الخمس أو العشر المقبلة، بصرف النظر عما إذا كان هذا الاتجاه الجديد هو استجابة لعملية برنامج بولون القاضية بإيجاد مجال لتعليم عال أوروبي قابل للتسويق وجذاب، فهذه القضية لغاية الآن غير واضحة. لكن من الواضح أن هذه المناطق والأمم التي تكوّن هذه المناطق والأقاليم ملتزمة ببناء أنظمتها التعليمية المستدامة والعمل على تقوية اقتصادياتها الإقليمية على مدار العقد المقبل. وعلاوة على ذلك، فإن المتطلبات الاقتصادية الإقليمية ستقوم بقيادة اقتصاديات المعرفة المحلية، وسيكون التعليم العالي هو المحفز الرئيس في هذه العملية. وهذا التركيز الإقليمي المحتمل يثير عددا من القضايا التي في حاجة إلى دراسة وهي متعلقة بالدول المضيفة والمزودين الخارجيين، وهو ما سيتم تناوله لاحقا في هذه المقالة. لكن الآن هناك حاجة إلى التعرض لمفهوم الثنائية الثقافية الكونية. ففي واقع الأمر، وبالرغم من وجود تطورات إقليمية مهمة في الشرق الأوسط وفي جنوب غرب آسيا، فإن هذه الأقاليم لا تعمل في فراغ، ومن ثم من المناسب أن تُدرس هذه الأقاليم في سياق التحولات الكونية التي تدفع اقتصاديات المعرفة وتدويل التعليم العالي والمبادرات الكونية مثل مبادرة اليونيسيف حول "التعليم للجميع" وأهداف الألفية. لا بد هنا من الإشارة إلى التحولات الكونية وما يكمن في مركزها، وهنا الحديث عن الثنائية الثقافية الكونية. والثنائية الثقافية هي مفهوم يشير إلى تبني اللغة الإنجليزية والأفكار الغربية والممارسات في الأعمال، وكذلك في التعليم العالي بشكل متماشٍ مع المعايير الثقافية واللغوية التي تميز الأقاليم والأمم. وفي الوقت الحالي فإن القضية ليست "نحن أو هم"، فهناك فوائد وقيود لجانبي الثنائية. والسؤال الأساسي يبقى حول ما هو التوازن الأنسب بين العولمة الغربية والإنجليزية في دول غير ناطقة باللغة الإنجليزية، وهو التوازن الذي في حاجة إلى أن نحافظ عليه وحمايته.
وعلاوة على ذلك، هناك عديد من الذين يرون أن هذا الاتجاه كناية خفية للنشاط الثقافي الإمبريالي. وإن كان مثل هذا الرأي قد يكون مبالغا فيه، فإن الاستجابة الرجعية لهذا التيار هي على أية حال تسلط الضوء على القضايا الحرجة التي تواجه عديدا من الدول والجامعات التي تبدي التزاما متساويا في تبني الحداثة، لكن في الوقت نفسه محافظة على اللغة والتراث الثقافي. في المشهد العالمي للتعليم العالي، فإن المستقطبين المهيمنين للطلاب الأجانب ومزودي البرامج الأكاديمية العابرة للحدود والبحث والتكنولوجيا ونقلها هم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا. ويمثل الكبار الثلاثة الهيمنة الكونية المهمة من خلال المؤسسات متعددة الجنسيات لقطاعات السوق العالمية (البنوك والتكنولوجيا والعناية الطبية والصيدلة والسياحة ..إلخ). فماذا يعني كل ذلك؟ هذا يعني أن اللغة الإنجليزية هي المهيمنة والتي تقوم بترويج الأفكار الغربية والممارسات والمعايير الثقافية في هذه الأسواق الكونية الرئيسة.
بالمقابل، من الأهمية بمكان أن نعترف بأنه وعلى الرغم من تأثير الكبار الثلاثة فهناك أدلة تشير إلى أن دولا مثل الصين والهند ودول الخليج العربي وألمانيا وفرنسا وبعض البلدان الأخرى هي الأخرى تتطور وتتحرك للأعلى في الترتيب التعليمي والاقتصادي الكوني. وحتى مع وجود بعض الإشكاليات في أسس اختيار ترتيب الجامعات على مستوى العالم، فإنه من الواضح أن هذه المناطق الجديدة تتحرك بسرعة للأعلى على هذا السلم، كما يحدث مع جامعات شرق آسيا ودول الخليج، كما أنه لا بد من ملاحظة التطور الواعد في الاستثمار ومصادره في دول الشرق الأوسط والخليج وحتى إفريقيا لإيجاد مناطق تعليمية إقليمية مركزية.
طبعا، نميل نحن في التفكير في الحماية بشكل رئيس عندما يتعلق الأمر بالعجز في الميزان التجاري أو في إجمالي الناتج الوطني أو في مؤشرات اقتصادية أخرى، على أية حال إذا ما فكر أحدنا في المشهد الكوني المتغير وكأنه تهديد من قبل الإمبريالية الأكاديمية والثقافية، عندها سيكون استخدام مفهوم الحماية الثقافية والأكاديمية كوسيلة أو كاستراتيجية بديلة لموازنة التأثير الغربي الإنجليزي. وفي واقع الأمر أنه عند هذه النقطة الحرجة بالتحديد بدأ يتشكل بناء مفاهيمي عن الأقلمة الكونية الجديدة.
المفارقة، هي أن القوى الغربية المهيمنة في الأسواق الكونية (الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا) هي بالضرورة دول تعتني بالداخل. وهذه المفارقة تظهر في طرق أخرى محيرة. فعلى الرغم من هيمنة هذه الدول في استقطاب الطلبة الأجانب وفي تسليم البرامج العابرة للحدود فإن هناك عددا قليلا من الطلبة من هذه الدول يدرسون في الخارج ويحصلون على المهارات اللغوية المتقدمة ولهم فهم أفضل ماذا يعني أن تظهر احتراما متبادلا وإنسانية وتسامحا كمواطنين عالميين، وهذا لا يعد نقصا في الفهم وإنما نقص في الوعي وإلى درجة ما جهل. وربما يمكن للشريك الأجنبي أن ينور هؤلاء المزودين تجاه وعي ثقافي أكثر من مجرد الإمبريالية الأكاديمية. وفي واقع الحال، فإن السؤال الرئيس الذي يظهر هو فيما إذا كانت الأقلمة الكونية الجديدة أصبحت استراتيجية لموازنة الإمبريالية الأكاديمية الغريبة، الوقت كفيل بتقديم الإجابة.
هناك عدد من الاعتبارات على كل دولة في إقليم وعلى كل إقليم أن يتفحصها فيما يتعلق بالتعليم العالي والتدويل أو الدولية. وبشكل عام يمكن تقسيم هذه الاعتبارات إلى قسمين: أولا، أولويات بالنسبة إلى الإقليم أو الدولة، وثانيا، التوقعات من قبل الجامعات الدولة أو الإقليم من المزودين الأجانب والشركاء. تاليا أولويات الجامعات أو الدولة أو الإقليم. أولا، تطوير أهداف ثقافية واقتصادية للتعليم العالي في كل إقليم وفي كل بلد وفي كل جامعة، ثانيا، تعريف الدولية أو التدويل في كل قطاع سياسي وتعليمي عال إقليمي وأيضا تحديد الاستراتيجية الإقليمية لقطاع التعليم العالي. ثالثا، تحديد ما يمكن أن يجلبه المزودون الأجانب للإقليم أو الدولة والذي يمكن له المساهمة في التنمية الاقتصادية وخلق نظام تعليمي عال مستدام. رابعا، تحديد الفوائد والقيود من أن يكون هناك شركاء أجانب يزودون البرامج الأكاديمية والبحث ونقل التكنولوجيا للمنقطة. خامسا، تأسيس الشروط للمزودين الأجانب لكي يعملوا في المنطقة أو في الدولة، كذلك هناك حاجة إلى تأسيس شروط الشريك والاتفاق على إعادة الاستثمار من الإرباح التي يجنيها البرنامج، وكذلك تأسيس أي متطلبات لجزء من المساق المعطى باللغة المحلية.
في المقابل، هناك توقعات من المستضيفين للمزودين الأجانب. أولا، يحتاج المزودون الأجانب إلى أن يحددوا وبوضوح الفوائد الاقتصادية والأكاديمية والبحثية المتوقعة من إشغال البرنامج في الإقليم. ثانيا، المزودون الأجانب في حاجة إلى أن يبينوا وبوضوح الفوائد المهنية والاجتماعية والثقافية التي سيجلبونها للطلاب. ثالثا، هناك حاجة إلى استقدام مزودين أجانب لهم قيمة ونوعيتهم عالية وسمعتهم ممتازة، وكذلك الشريك حتى يخدموا الطلبة المحليين. رابعا، المزودون الأجانب في حاجة إلى أن يقدموا خدمات دعم شاملة للطالب، وبخاصة إذا ما قدم البرنامج باللغة الإنجليزية، كما أن على المزود الأجنبي أن يقوم بتحضير واجباته البيتية فيما يتعلق باللغة والثقافة والمعايير الاجتماعية للدولة المضيفة، وكذلك للجامعة الشريك. خامسا، على المزودين الأجانب أن يبرهنوا على خبرتهم وقدرتهم في تقديم نماذج وبرامج متعددة لبرامجهم الأكاديمية مثل التعليم عن بعد والتعلم المباشر .. إلخ. هذه الأسئلة ليست شاملة، فهناك عديد من المجالات التي تتطلب تحليلا جيدا لتطوير شراكات عابرة للحدود، لكنها أسئلة على آية حال تقدم الإطار العام لموازنة الفرص وعيوب هذه الشراكات.
ما من شك أن المقدرة التعليمية لتحويل الاقتصاديات والتسامح والانسجام المجتمعي والمواطنة العالمية هي كبيرة جدا. فالتعليم هو مستقبل الشرق الأوسط، ربما هناك "أصولية" جديدة في حاجة إلى أن يتم تبنيها في الشرق الأوسط - وهذه الأصولية هي القوة الرئيسة للتعليم لتحويل الحياة والمدن والأمم والأقاليم. وهذه هي قيمة ضرورية يجب تشجيعها في كل قطاعات المجتمع في الشرق الأوسط التي من دونها فإن مناقشة التعاون أو التعليم العالي الإقليمي سيكون كامنا. وعلاوة على ذلك فإن تبني التعليم ليس مرادفا لطرح التاريخ والثقافة والدين في المنطقة جانبا. فهو وببساطة يتطلب مسألة تأقلم معقولة للتعليم في سياق هذه القيم والمثل. صحيح أن ذلك يعني تحديا جديدا لكن ليس مستحيلا. فنقاط القوة الكامنة في الشرق الأوسط عادة ما يتم التقليل من شأنها من قبل الغربيين وحتى من قبل المحليين. فالإقليم هو غني في التاريخ والثقافة والعرقية والعادات والأكل والفكر الفلسفي والتعاليم الدينية والطبوغرافيا والكثير من الأشياء الأخرى. وهذه هي مصادر ذخر لا تقدر بثمن التي يمكن استعمالها حتى نبني تعليما على كل المستويات في مختلف أنحاء الإقليم. فماذا يعني كل ذلك بالنسبة إلى التعليم في المنطقة؟ فالمزودون الأجانب يسلمون برامج تعليم عال وبحث في الشرق الأوسط، والكثير من هذه البرامج يتم تدريسها باللغة الإنجليزية لكن في الشرق الأوسط فهو أيضا إقليم يتكلم فيه الناس بالإضافة إلى ذلك الفرنسية والإيطالي واليوناني والألماني وغيرها من اللغات. فهذه اللغات ليست عبئا وإنما هي في واقع الأمر ذخر يمكن للإقليم أن يوظفها كمحفز لبناء نظام تعليم عال ذي نوعية عالية ومستدام.
هناك عديد من الجامعات الممتازة التي تتطور عاما بعد عام. وهناك تقدم معتبر في دفع الفرص بالنسبة إلى النساء في التعليم العالي. فالكثير من الجامعات تقوم بدمج التكنولوجيا وأساليب التعليم المفتوح والتعلم عن بعد في برامجها. وباختصار فإن الإقليم تقدم بشكل كبير ومعتبر بالرغم من التحديات المتمثلة بالنزاعات والخلافات الداخلية الأهلية في مختلف أنحاء الإقليم.
فالأقلمة الكونية للتعليم العالي المتعلقة بالتعليم هي موجودة في الاقتصاد والسياسة والثقافة والمعايير المجتمعية للإقليم. وبناء مقدرة إقليمية هي ليست متعلقة بتفوق شرقي أو غربي، بل هي متعلقة بتحديد الأجندة للإقليم التي يمكن لها أن تنجز محليا بالتعاون مع المعرفة الغربية والخبرات والبرامج والبحث وانتقال التكنولوجيا. فالمفتاح الرئيس هو أن تخلق توازنا الذي في نهاية الأمر يقوي المنطقة ويخلق فرصا لتحويل حياة كل مواطنيها. فالشعوب في الإقليم لها الكثير من الأشياء المشتركة مع بعضهم البعض أكثر من تلك الأشياء المشتركة مع الآخرين في أجزاء أخرى من العالم. فنجاح الأقلمة الكونية في الشرق الأوسط هو في واقع الحال أكثر اعتمادية في هذا التشابه والانسجام من أي عنصر آخر.
عولمة التعليم العالي تقترح بأن الاستراتيجيات الإقليمية يمكن لها أن تلعب جزءا مهما متزايدا في قادم الأيام في التنمية المستقبلية للشراكات الأجنبية والاستدامة الاقتصادية الإقليمية. فالأقلمة الكونية الجديدة يمكن لها أن تصبح استراتيجية حيوية لموازنة القلق المتزايد حول الإمبريالية الأكاديمية من قبل المزودين الأجانب. لكن في الوقت نفسه، فإن سيناريو التوازن يمكن أن يقوي كلا من المبادرات المحلية والشراكات الأجنبية عن طريق تحديد القضايا الاجتماعية واللغوية والثقافية الحساسة بالنسبة إلى الإقليم - كما هو في الشرق الأوسط وفي شرق آسيا وفي أوروبا وغيرها من المناطق الكونية. وعلاوة على ذلك، فإن نمط التنقل التقليدي بالنسبة إلى الطلبة هو مرجح ليطرأ عليه تغيير، وهذه التغيرات لن تكون بسبب الخصوصية الإقليمية الصارمة، لكن بسبب قوى السوق الأساسية الناتجة عن وجود مزودين أكثر، والتي تترجم إلى عدد أكثر من الخيارات أمام الطلاب والجامعات والدول. وربما فإن الدول التي تقليديا هيمنت على عملية استقطاب الطلبة الأجانب لسواحلها ستكون مطالبة بأن يكون طلابها هم المشتبكون في برامج تدريس في الخارج.
الخليج العربي على سبيل المثال ضرب مثالا للانفتاح على التعليم الغربي، فقد بدأت عملية الإصلاحات التعليمية، وبالفعل وصل الإصلاح التعليمي من الغرب للخليج العربي على نطاق واسع، فقد افتتحت الكثير من الجامعات الأمريكية والبريطانية والكندية والأسترالية في منطقة الخليج. وعلاوة على ذلك يتم توظيف أحسن الممارسات والمنهجيات الغربية في منطقة الخليج. وعلى الرغم من أن هذه التحسينات وتبني النماذج الغربية كانت مفيدة جدا، إلا أنها ليست من دون ثمن أيضا. فتاريخيا كان الهدف من التعليم في منطقة الخليج هو الحفاظ على الثقافة التقليدية، أما الآن فالقادة في الإقليم يرون التعليم مكونا أساسيا في بناء الأمة وأساسيات التنمية الاقتصادية والتغير الاجتماعي. وفي أثناء عملية التنمية والحداثة، أدرك القادة أنه من أجل الحد من انحسار الثقافة التقليدية فهم في حاجة إلى أن يحضروا مواطنيهم لإدارة الأعمال في بلدهم والتوقف عن الاعتماد على المهنيين والخبراء الأجانب. وبالتالي فقد تم الاستثمار بمصادر كبيرة جدا لتوفير أفضل فرص التعليم القادر على الاستجابة لاحتياجات المجتمع المتغير، لكن في الوقت نفسه يحافظ على القيم الإسلامية التقليدية، وهو الأمر الذي يعد تحديا.
بقي أن نشير إلى أن هذا المقال تناول جزءا من التقرير المطول، وبقي هناك مواضيع كثيرة تناولها التقرير مثل: التجربة الإماراتية، الجامعات على الطريقة الأمريكية في الشرق الأوسط، التعليم الحر في الشرق الأوسط، برامج التعليم الإلكتروني في الشرق الأوسط، وموقف تركيا من عولمة التعليم العالي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي