مشروع تصنيف المكاتب الهندسية .. إشكالات التطبيق

أصدر مجلس الوزراء الموقر قبل نحو أسبوعين قراره بإسناد مهمة تصنيف المكاتب والشركات الاستشارية الهندسية إلى وزارة الشؤون البلدية والقروية, وأشرك القرار إلى جانبها كلا من وزارة التجارة والهيئة السعودية للمهندسين في مهمة وضع آلية التصنيف. هذا القرار جاء بالضرورة في إطار حرص المجلس الموقر على وضع التشريعات والآليات التي تدعم جهود التنمية, وتعالج المشكلات التي تواجهها وتعطل مسيرتها, خاصة في ظل ما نشهده من تعثر وتأخر في تنفيذ كثير من المشاريع. وتناول الدكتور سليمان العريني في مقاله الأسبوع الماضي هذا الموضوع بقلمه المبرز, وسأنطلق هنا من ذلك المقال لأعرض مجموعة من القضايا والرؤى, التي ربما تتعارض مع بعض مع ما ورد في ذلك المقال, وربما مع مجمل طريقة مقاربة الموضوع, وطبيعة الحل الذي تبناه ذلك القرار.
القضية الأولى هي طبيعة عمل المكاتب الهندسية التي تقوم على القدرات الفنية والفكرية والمهارية والإبداعية لمنسوبي تلك المكاتب, وليس على القدرات المادية التي يملكها المكتب, وهي في ذلك تختلف اختلافا جذريا عن شركات المقاولات, التي يعتمد تأهيلها وتصنيفها على ما تملكه من قدرات مادية وبشرية, تتمثل في العادة فيما تملكه الشركات من معدات ومواد وغير ذلك من عناصر التأهيل. وبالتالي, فإن تطبيق مفهوم وآليات تصنيف شركات المقاولات على المكاتب الهندسية سيؤدي بالضرورة إلى كثير من الإشكالات والمآزق, التي لن يكون آخرها تكريس طبقية المكاتب, واحتكار المشاريع المهمة من قبل عدد محدود منها, وتعطيل تنمية المكاتب الصغيرة والمتوسطة وتفعيل مشاركتها في جهود التنمية. لست أدري إن كان هذا الأمر حاضرا في أذهان أعضاء اللجنة, التي ستضع آليات التصنيف, لكنني خشيت فقط القراءة الخاطئة لما أورده الدكتور سليمان العريني في مقاله, حين أشار إلى تصنيف شركة ما على أنها ''درجة أولى'' يعني أن لديها القدرة على تنفيذ مشاريع تزيد قيمتها على مبلغ معين, وهذا لعمري عين المشكلة. الحقيقة يا دكتور أن قدرات المكاتب الهندسية لا علاقة لها بإمكاناتها المادية, كما أن إمكاناتها المادية لا تعني قدرتها على تنفيذ مشاريع معينة بمبالغ معينة. هناك مشاريع صغيرة الحجم ومنخفضة القيمة تتطلب قدرات وخبرات خاصة لا تتوافر لدى كبريات المكاتب الهندسية العاملة في المملكة, كما أن هناك مشاريع كبيرة الحجم والقيمة, لكنها ذات طبيعة متكررة أو نمطية يمكن لكثير من المكاتب الصغيرة والمتوسطة إنجازها بكفاءة عالية, مثل مشاريع الإسكان على سبيل المثال. وبالتالي فإن سيطرة العنصر المادي على مفهوم التصنيف سيحد كثيرا من فاعليته, ويزيد المشكلة التي نعيشها تعقيدا.
القضية الثانية هي واقع التناقض الذي يتم التعامل فيه مع المكاتب الهندسية من قبل أجهزة الدولة والمجتمع. فمن جهة تواجه المكاتب تنظيمات وتشريعات تتطلب منها امتلاك قدرات مالية عالية, بما في ذلك أنظمة العمل والتأمينات الاجتماعية والتأمين الطبي, وأخيرا متطلبات التصنيف المقبل. ومن جهة أخرى لا تملك تلك المكاتب أية وسائل لدعم قدراتها المادية, لا للارتقاء بقدراتها الفنية والبشرية لتحقيق متطلبات التصنيف والمنافسة في السوق المحلية, ناهيك عن السوق العالمية, ولا للإيفاء بالمتطلبات والرسوم التي تتحملها المكاتب, التي كان آخرها رسوم الاعتماد المهني لمنسوبي المكاتب, التي وجد أصحاب المكاتب أنفسهم ملزمين بها جراء التطبيق المفاجئ لها من قبل الهيئة السعودية للمهندسين. الأنظمة القائمة يا دكتور سليمان تمنع دخول شركاء ممولين في المكاتب والشركات الهندسية لدعم قدراتها التمويلية, كما أن البنوك والمؤسسات التمويلية تنظر إلى هذه المكاتب والشركات نظرة دونية, ولا تعيرهم شيئا من اهتمامها أو عطفها, والأنظمة أيضا ترسخ الشكل الفردي للممارسة المهنية, وتحد من تضافر جهود المهندسين لتكوين شركات قوية, بالنظر إلى كل الإشكالات التي يعانيها نظام الشركات المهنية. فبالله عليكم, كيف يمكن لتلك المكاتب أن تملك القدرات المادية كي تحقق متطلبات المنافسة ناهيك عن متطلبات التصنيف؟ وهنا ــ في رأيي ــ مربط الفرس, إذ يجب أن تكون المنافسة وليس التصنيف حافزا للمكاتب للارتقاء بقدراتها, مدعومة بمناخ تشريعي وتنظيمي وتمويلي يمكنها من تحقيق متطلبات تلك المنافسة, وبعدها, يمكن أن يأتي التصنيف لينظم تلك المنافسة العادلة. أما أن يأتي التصنيف في ظل ما تعيشه السوق المهنية حاليا من منافسة غير عادلة, بين مكاتب كبيرة تصادف أن يكون أصحابها ممن أنعم الله عليهم بقدرات مالية عالية, ومكاتب صغيرة تعاني الأمرين للإيفاء بالتزامات ما أنزل الله بها من سلطان, فهو لعمري ثالثة الأثافي, خاصة بعد أن رفع نظام المشتريات الحكومية معدل الإعفاء الذي كانت تتمتع به المكاتب الهندسية من إصدار الضمانات للعقود الحكومية, فوضعت على كاهلها مزيدا من الأعباء التي لا طاقة لها بها.
القضية الثالثة هي الجهاز المسؤول عن المكاتب الهندسية, وهو الهيئة السعودية للمهندسين, هذا الجهاز الفتي الذي يعيش مرحلة إعادة ولادة بعد مراحل من الإخفاق النسبي خلال الفترات الماضية, فتأسيس الهيئة الذي جاء عبر تحويل ما كان يعرف باللجنة الهندسية إلى هيئة كان خطوة مباركة لتأسيس كيان يقوم على الشؤون المتعلقة بالعمل الهندسي كافة في المملكة. والمشكلة, أن هذه الهيئة ما زالت تعاني قصور الإمكانات التي تؤهلها للقيام بدورها الحقيقي في مسيرة التنمية, وما زال دورها ثانويا, وربما هامشيا مقارنة بمثيلاتها في الدول الأخرى القاصية والدانية. وما تضمنه قرار مجلس الوزراء الموقر من إسناد مهمة التصنيف إلى وزارة الشؤون البلدية والقروية عوضا عن الهيئة السعودية للمهندسين تعبير عن حقيقة هذا الواقع. وفي رأيي, إنه من الضروري العمل على دعم هذه الهيئة بالقدرات والصلاحيات والإمكانات التي تمكنها من القيام بدورها الحقيقي, عوضا عن زعزعة مكانتها عبر توزيع مهامها على جهات أخرى من أجهزة الدولة. ووزارة الشؤون البلدية والقروية تعد أحد بل أكبر المستفيدين من الخدمات التي تقدمها الكيانات التي ترخصها الهيئة. وبالتالي, فإن تكليف الوزارة بهذه المهمة ربما يحمل شيئا من تعارض المصالح, ناهيك عن تنازع الصلاحيات والاختصاصات الذي يوقع مزيدا من الخلل. وفي رأيي أيضا, فإن الهيئة هي الجهة المثلى للقيام بهذا الدور, ليس فيما يتعلق بالمكاتب الهندسية فقط, بل إنها الجهة المثلى للقيام بمهمة تصنيف المقاولين أيضا, كونها الجهة التنظيمية التي يفترض فيها أن تكون المنظمة لعمل تلك الكيانات. أعلم أن الهيئة ليست قادرة حاليا على القيام بهذا الدور, ولكني أرى أيضا أنه كان الأولى أن يتم توجيه الجهود لدعم قدرات الهيئة وتفعيل دورها في هذا المجال, لتتمكن من الدور الذي يفترض أن تقوم به في تنظيم وتأهيل وتصنيف الكيانات المقدمة للخدمات الهندسية في المملكة بجميع تخصصاتها.
وخلاصة القول, فإن معالجة إشكالات تعثر المشاريع تتطلب دراسة شاملة لجذور المشكلة, وحلا شاملا يتعامل مع المستويات كافة, وليس حلولا مبتورة لا تؤدي إلا إلى مزيد من التعقيدات. ونظام التصنيف يجب أن يكون حلقة ضمن منظومة شاملة من الإجراءات والحلول التي تعالج مسببات المشكلة, وتاليا لكثير من الخطوات التي تؤسس للارتقاء بالمكاتب الهندسية ورفع قدراتها للإيفاء بمتطلبات التنمية وجودتها المأمولة.
وأشير ختاما إلى أن ما أوردته من مشكلات لا يتعلق فقط بالمكاتب الهندسية, بل ينجر أيضا إلى المكاتب المهنية الأخرى, بما فيها مكاتب الاستشارات الاقتصادية والقانونية والمحاسبية وغيرها, وهي كيانات تملك دورا مؤثرا في مسيرة التنمية الوطنية, وتعاني المشكلات ذاتها التي أشرت إليها في هذا المقال وعديد من مقالاتي السابقة حول هذا الموضوع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي