قلب ابني علي حجر وقلبي على ابني انفطر

في شقة بعيدة عن الناس، وفي عمارة مهترئة قد ملأت الزبالة أركانها، شققت طريقا إلى شقة العم عبد الكريم، وعند صعودي للطابق الثاني وجدت أكواما من بقايا أثاث قديم ، دولاب ملابس دون أبواب ومكيف صحراوي قد امتلأ بالصدأ وأكل الملح قشه فلا ترى إلا بياضاً. وبصعوبة وصلت إلى باب الشقة لأدق جرس الباب الذي تعجز عن تحديد لونه لكثرة الكتابات عليه، وأصباغه قد اهترأت.
دققت الجرس مرة أخرى فسمعت صوتاً متهدجاً يرد عليّ: نعم أنا قادم.
ثم استمعت إلى صوت قفل الباب وهو يفتح واحدة ثم ثانية، فانفتح الباب وإذا برجل هرم قد كسا البياض شعره وقد حنى الزمن ظهره؛ إنه أبو عبد الكريم في نهاية الثمانينات من العمر، يسكن مع زوجته العجوز.
أبو عبد الكريم مصاب بقائمة طويلة من الأمراض من الضغط إلى السكر إلى أمراض العيون إلى التهاب القدم ... إلخ، وزوجته مصابة بالقلب وهي في العقد السابع من العمر، ولكنهما لايشتكيان إلا لله سبحانه وتعالى.
أبو عبد الكريم ينزل من شقته كل ثلاثة أشهر ليذهب إلى المستشفى للحصول على الدواء والذي يكفيه لثلاثة أشهر أخرى. يأخذه جاره سائق الليموزين الهندي على كرسي متحرك فهو لا يستطيع المشي، وينزله إلى سيارته للذهاب إلى المستشفى طبعاً مقابل أجرة.
رحب بي كثيراً أبو عبد الكريم، وكالعادة دخلت إلى غرفة الضيوف المتواضعة والتي بها سرير نومه وبجانبه أكياس من الأدوية، وفي زاوية الغرفة تلفزيون صغير لا يتعدى 18 بوصة مغلق. وبعد الترحيب بي، سألته: يا أبا عبد الكريم لم لا تفتح التلفزيون؟ فأجاب أن بصره ضعف كثيراً فلا يستطيع المشاهدة. وكالعادة كانت زوجته قد جهزت القهوة والتمر ومن وراء الباب سلمت عليها: كيف حالك يا أم عبدالكريم مع أدوية القلب؟ فأجابت إجابتها المعتادة الحمد لله الحمد لله. ولما سألته: عسى ما أزعجتك يا أبا عبدالكريم؟ .. وكيف تقضي وتمضي وقتك؟ .. رد: أنا يا ولدي كثر خيرك، فأنت من القلة النادرة التي تزورني، وأنا أمضي وقتي على هذا السرير طوال الليل والنهار .. أنام قليلاً .. ثم أصحو قليلاً .. وهكذا دواليك .. صحو ونوم. تحدثت مع أبو عبد الكريم بعد ذلك أحاديث شتى لكي أسليه وأواسيه، وبعدها أعطيته أمانة مالية من صديق لي كمساعدة (مبلغ ألفي ريال)، فأخذها ولسانه يلهج بالدعاء، ثم سألته: كيف ابنك عبد الكريم (ابنه مهاجر في أمريكا يعمل ومتزوج من أمريكية تاركاً وراءه أباً هرماً تحيط به الأمراض والوحدة ووالدة عجوز لا تقل عن زوجها تعباً). فأجاب وبدا مسروراً: إن ابني عبد الكريم يعمل في أمريكا وقد تزوج من صديقته وهي الآن حامل، تم يلهج بالدعاء لابنه: أسأل الله أن يوفقه ويحفظه فهو مكافح في هذه الحياة، وقد سألني قبل أيام أن أبعث له مالاً فهو محتاج، إنه مسكين في غربة، وقد بعثت له بالألف ريال التي أعطيتني إياها الشهر الماضي، تعرف أن عبد الكريم (موجهاً كلامه لي) يحتاج إلى مصاريف كثيرة فالحياة غالية وصعبة هناك.
سبحان الله هذا الابن لا يتصل بوالديه إلا إذا احتاج مالاً وهو يعلم أن والده لا يملك شيئاً، فهو مقعد ومريض ومسن ويئن من الوحدة، ووالدته كذلك، ولكنه يتلاعب بالألفاظ والجمل ليستحث عطفهما ليقتطع المسكينان من خبزتهما فيرسلا له المال وإن قلّ في يديهما.
عبد الكريم سيكمل السنة السادسة وهو في أمريكا لم ير والديه ولم يرياه وهما في أشد الحاجة إليه.
عجيب أمر الحياة تقسو كثيراً
(قلب ابني علي حجر وقلبي على ابني انفطر)

شكرا لأخي أبو محمد " أحمد الشبيكي " صاحب هذا الموضوع .. وسلامتكم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي