مأسسة العمل المهني

لست متأكدا من صحة هذا المصطلح من الناحية اللغوية، وأتطلع إلى مساهمة من المختصين في شؤون اللغة العربية لدراسته والخروج بالصيغة الملائمة والصحيحة لما يمثله من معان، خاصة أن المحتوى العام لهذا المفهوم لا يختص فقط بالعمل الهندسي أو المهني، إنما يتعلق بكل جوانب العمل التي تتطلب فكرا مؤسسيا وممارسة منظمة تحقق النهوض المأمول والتطور المرتقب.
سأركز في هذا الطرح على مجال العمل المهني في المملكة, وهو المجال الذي تتم ممارسته وفق نظم إدارة المهن الحرة في وزارة التجارة, التي تشمل بشكل أساسي المهن الهندسية والقانونية والمحاسبية والاقتصادية, علاوة على عدد من المجالات الأخرى المستجدة حديثا. وعلى الرغم من انحصار علاقتي المهنية بالعمل الهندسي دون سواه من المجالات التي أشرت إليها, إلا أن محتوى الطرح يتعلق بشكل عام بمجالات العمل المهني كافة, كونها تنضوي تحت التنظيمات والقوانين ذاتها التي تتعلق بمجالات العمل المهني المختلفة.
إن السمة العامة التي تطبع القوانين التي تنظم مجالات العمل المهني في المملكة هي ربط ممارسة كل مهنة من تلك المهن بالفرد الحامل لترخيص ممارسة المهنة, وذلك ـــ حسب فهمي المتواضع ـــ من منطلق ربط المسؤولية المهنية لنواتج العمل الذي يمارسه حامل الترخيص به مباشرة. وبناء على ذلك, فإن أي كيان مهني يتم تأسيسه لممارسة العمل المهني بموجب ترخيص مزاولة المهنة الصادر للفرد المهني يكون مرتبطا بهذا الفرد الحامل للترخيص, وبطبيعة الحال, يزول بانعدام قدرة الفرد على ممارسة المهنة, سواء بالوفاة, أو التقاعد, أو الإعاقة, أو حتى بتبدل رغبة وحماس هذا الفرد لممارسة هذا العمل. ويفترض هذا التنظيم بطبيعة الحال قيام الأفراد حاملي هذه التراخيص بممارسة العمل بأنفسهم ممارسة فعلية, دون أن يفتح المجال لدراسة ما يشهده الواقع من ممارسات فاضحة للتستر وتأجير التراخيص ومكاتب الشنطة والأختام وغير ذلك من الممارسات التي تهوي في الواقع بجودة العمل المهني إلى الدرك الأسفل. والمشكلة الحقيقية تمكن في أن النظام يعامل التكتلات والشركات المهنية وفق المفهوم ذاته, حيث يلزم مثل هذه التكتلات بالعمل وفق نظام الشركات التضامنية فقط, أي أنه يكرس مفهوم ربط العمل المهني بالفرد, الأمر الذي يحد من إمكانية الخروج بحل ملائم لهذه المعضلة, ويمنع نشوء مؤسسات مهنية تعمل وفق منظور تجاري طويل الأمد. إن الصبغة الفردية التي يعيشها العمل المهني في بلادنا تفرض على واقع العمل إشكالات كبيرة وخطيرة, سواء على مستوى نوعية العمل المهني وجودته, أو على مستوى تطور الخبرات وتراكمها, أو على مستوى ضياع المسؤوليات والحقوق, أو على مستوى مواجهة التحدي الأكبر القادم في الأفق جراء فتح الباب للمؤسسات المهنية من كل حدب وصوب للعمل في المملكة كنتيجة طبيعية لدخول منظمة التجارة العالمية. وسأسعى فيما يلي إلى حصر وعرض بعض هذه الإشكالات للتعرف على مدى خطورة المشكلة.
الحقيقة التي لا يمكن أن يجادل فيها أحد هي أن الفرد زائل مهما طال عمره, هذه الحقيقة تجعل من الأساس الذي يقوم عليه التنظيم أساسا واهيا وغير ذي جدوى. إذ إن المسؤولية المرتبطة بالفرد ــــ مهما طال عمره ـــ مسؤولية زائلة لا محالة. تخيل أن مكتبا هندسيا قام بتصميم مبنى لإحدى الجهات, ولقي هذا المهندس وجه ربه بعد تنفيذ المبنى الذي صممه وتحمل مسؤولية ضمانه التعاقدية لمدة عشر سنوات وفق نظام الأشغال .. من سيتحمل هذه المسؤولية بعد وفاة المهندس صاحب الترخيص؟ هل هم الورثة الذي ليس لهم في الأمر ناقة ولا جمل, أم المالك الذي وضع ثقته في هذا المكتب, أم من؟ ربما لا أحد في الحقيقة. هذه الحالة هي حالة اعتيادية وقابلة للحدوث, ويمكن أن نضم إليها كثيرا من الحالات التي تضيع فيها المسؤولية, كأن يغلق هذا المهندس مكتبه ويتجه إلى تجارة الملابس مثلا, أو أن يكتب الله له رزقا في مكان آخر من هذا العالم, وغيرها الكثير من مثل تلك الحالات. هب أن هذا المهندس كتب الله له ولمكتبه طول العمر, فمن أين للمسكين أن يتحمل مثل هذه المسؤولية الجسيمة وهو هذا المهندس المسكين صاحب المكتب المتواضع الذي يقدم خدماته مقابل أتعاب زهيدة تكفي بالكاد لسداد رواتب حفنة من الرسامين والمهندسين الذين يضمهم هذا الكيان البسيط؟ في هذه الحالة سيتم القبض على المهندس المسكين ويودع السجن إلى جانب من تضمهم السجون من حملة الديون والمسؤوليات التي يعجزون عن تأديتها لأصحابها, ويكون المسكين الحقيقي في النهاية هو صاحب المنشأة الذي وضع ثقته بهذا المكتب. لنتصور في المقابل أن هذا الكيان هو كيان ذو صبغة تجارية غير مرتبط بأي فرد, يتمتع بكينونة وشخصية اعتبارية مستقلة, ويخضع للرقابة والمتابعة من قبل مؤسسات الدولة. سيتمكن صاحب المشروع هنا من تحصيل حقوقه, وسيجد من يحمله المسؤولية متى ما ظهر الخلل. الأجمل من ذلك, أن تلك المنشأة ستكون أكثر حرصا على جودة العمل والخدمة التي تقدمها جراء إحساسها وفهمها هذه المسؤولية, وربما نرتقي درجة في الأمل, فنتطلع إلى فرض نظام للتأمين المهني, يحمي حقوق المطورين تجاه الأخطاء المهنية, ويحمي المهندسين والمهنيين من احتمالات الخطأ البشري وممارسات المقاولين وغش العمال وغير ذلك الكثير.
إن العمل الفردي يختلف عن العمل المؤسسي في أوجه عديدة, قد يكون أهمها ـــ في فهمي البسيط ــ هو ما يحققه العمل المؤسسي من إحساس بالاستقرار وترسيخ فكر التنمية والتطور والعمل طويل الأمد بدلا من العمل المبني على منظور قصير الأمد يسعى إلى الربح السريع من خلال عمل متدني الجودة منخفض التكاليف. يحز في نفسي وأنا أنظر إلى مناخ العمل المهني في بلادنا أن أرى معظم المؤسسات المهنية تفتقر إلى أدنى معايير وأسس النجاح والتأهيل للعمل في سوق هي الأكبر في المنطقة. ويحز في نفسي أكثر أن أرى بعض المؤسسات التي تحرص على احترام ذاتها قبل احترام الغير, وتسعى إلى تقديم مستوى جيد من العمل المهني, وأتخيل أنها انمحت بقدرة قادر من خريطة العمل المهني, وزالت من قوائم التأهيل ودعوات أصحاب العمل, بسبب زوال صاحب الترخيص لأي سبب من الأسباب.
كل ما أود طرحه في هذا المقام دعوة صادقة لكل من يهمه أمر هذا الوطن أن تجتمع الأكف والأصوات للدعوة للعمل على مراجعة وتطوير التشريعات والقوانين التي تنظم العمل الهندسي على وجه الخصوص, والعمل المهني على وجه العموم, وذلك للسماح بتأسيس شركات مهنية تعمل على أسس تجارية, يملكها مساهمون ليسوا بالضرورة من ممارسي المهنة, لديهم القدرة على توفير التمويل اللازم لتوفير التجهيزات التقنية وتدريب وتأهيل الكفاءات الفنية لأداء مستوى راق من العمل المهني. هذا الأمل لا يتعارض بالضرورة مع ما تهدف إليه النظم الراهنة من أهداف مشروعة. وببساطة شديدة, فإن المسؤولية ستكون مرتبطة بهذا الكيان, الذي سيقوم بدوره بتوفير غطاء تأميني يحميه, ويضع نظاما لتحميل المسؤولية للمهندس أو المهني الذي قام بالعمل فعلا. ومن جهة أخرى, يمكن أن يبقى العمل المهني مرتبطا بالفرد الذي يرغب في المحافظة على كيانه البسيط ذي التخصص الواحد الذي يرتبط بالتخصص الفعلي لصاحب الترخيص. أعتقد أن هذا الأمر هو من الأهمية بمكان لينال حظه من الدراسة والتمحيص للخروج برؤية ملائمة لتطوير الحل الملائم. وأتطلع إلى أن تكون الهيئة السعودية للمهندسين هي المبادرة في هذا المجال, بالنظر إلى حراجة الأمر بالنسبة إلى العمل الهندسي على وجه الخصوص, وما يتسم به العمل الهندسي خاصة من اختلاط التخصصات, وبالتالي اختلاط المسؤوليات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي