هيئة الاستثمار وصراع الكتاب

لم أكن أود أن أقتحم الصراع الدائر في الصحف حول هيئة الاستثمار، وآمل ألا يفسر مقالي هذا على هذا المحمل. ولكنني وددت التعليق بموضوعية على هذا الصراع، عسى أن يسهم هذا التعليق في إعادة الحوار إلى مساره الصحيح، ليحافظ على مبادئ الاحترام والموضوعية والوطنية بالدرجة الأولى. وإن كانت الوطنية من ناحية المبدأ لباسا يرتديه كل الكتّاب، إلا أن ما تضمنته بعض الكتابات من كلا طرفي الصراع من همسات وتصريحات التخوين والاتهام توحي بغياب هذه القناعة لدى بعض الكتاب.
ما أثارني ودفعني لكتابة هذه السطور عدد من المقالات المدافعة عن هيئة الاستثمار نشرتها بعض الصحف في الآونة الأخيرة. كان آخر هذه المقالات مقال الدكتور تركي الثنيان في صحيفة الاقتصادية يوم الثلاثاء الماضي، وقبله مقال الأستاذة عبير السعيد الذي نشر بعنوانين مختلفين في كل من صحيفتي الاقتصادية والحياة، وقبلهما عدد آخر من المقالات التي رفعت راية الدفاع عن الهيئة. هذه المقالات جاءت في معرض الرد على مجموعة أخرى من المقالات، ربما كان أبرزها وأشدها مقالات الكاتب داود الشريان والكاتبة حسناء القنيعير وغيرهم كثير، وربما أكون بشخصي المتواضع أحد من قصدهم كتّاب جبهة الدفاع بسهام مقالاتهم، مع أني كنت دوما أتحرى الموضوعية في كل ما كتبت عن هيئة الاستثمار وغيرها. ولست هنا واقفا موقف المعارض لمبدأ الكتابة دفاعا عن الهيئة، أو رافضا مبدأ الحوار مع كتّاب الضد، إن سمحوا لي بتسميتهم بهذه الصفة، ولكني وجدت أن كل الكتابات المدافعة كانت دوما تحوم حول حمى الموضوع دون أن تدخل في صلبه. كنت أتمنى أن تنبري الأقلام وتنطق الأفواه للدفاع عن الهيئة وإبراز ما تدعيه من نجاحات على أسس موضوعية تجابه الحقائق التي تضمنتها مقالات الضد. لم أجد في الحقيقة في كل تلك المقالات المدافعة إلا اتهاما للكتّاب بالسفه واتباع الهوى والمصالح الشخصية، وربما بعض ملامح التخوين المبطن، ناهيك عن السقوط في الخطأ اللفظي والتعدي الجارح. الأستاذة عبير السعيد عنونت مقالها المذكور في إحدى الصحيفتين بعنوان ''القافلة تسير''، وهو شطر من عبارة معروفة توحي بصفة غير ملائمة يفهم أنها تصف الكتّاب الذين سلكوا سبيل مساءلة الهيئة، وهذه لعمري سقطة لا تليق لا بكاتبة المقال ولا بالصحيفة التي نشرته تحت هذا العنوان. والدكتور تركي الثنيان حمّل مقاله باتهامات أقلها السعي للنفع الخاص، وهذه في رأيي حيلة العاجز، الذي لم يجد حجة يباري بها حجج المعارضين.
وبعيدا عن سرد مثل هذه الملامح السلبية في تلك المقالات، فإنني أرى أن أيا منها لم يتناول بالحجة الدامغة والمعلومة الموثقة أيا من تلك الاتهامات التي تناولها كتاب الضد، فلم أجد في أي منها مناقشة جادة لنوعية الاستثمارات التي استقطبتها ورخصت لها الهيئة، ولا لعوائد تلك الاستثمارات على الاقتصاد الوطني أو توظيف المواطنين، ولا لدور الهيئة المفقود في دعم الاستثمارات المحلية على الأقل على حد السواء مع الاستثمارات الأجنبية. كل هذه الموضوعات وغيرها هي موضوعات حيوية تلامس هموم الوطن والمواطن، ويعيشها الناس ويذوقون مرارتها في حياتهم اليومية. هيئة الاستثمار يا إخوتي هيئة وطنية في الأساس، وأهدافها التي نص عليها نظامها الأساسي هي أهداف وطنية صرفة، وتعبر عن نظرة تقدمية تطلعية لدى القيادة، وقادة الهيئة أعلام مبرزون في مجال اختصاصهم، وأجزم أنهم يعملون بنية وطنية خالصة. والنقاش الذي يدور حول أوجه القصور في عمل الهيئة لا يهدف إلى تعرية أحد، ولا إلى اتهام أحد في وطنيته ولا في أهدافه، ولكنه يأتي في إطار السعي إلى الكمال، وتصحيح ما شاب مسيرة الهيئة من أخطاء انعكست وقائع وعثرات ومشكلات نراها ملموسة على أرض الواقع. كلنا يريد لهذا الوطن السمو والتقدم، ولكننا نريده تقدما حقيقيا ينعكس على أهل الوطن بالنفع، وليس مجرد أرقام ومراتب وشهادات دولية تخدر الإحساس وتعطل الهمم. كلنا يريد أن تكون المملكة الأولى في جذب الاستثمارات الأجنبية، ولكننا نريد أن نرى أثر هذه الاستثمارات في اقتصاد الوطن ورفاهية الشعب، ونريده أيضا موطنا لاستثمارات أهل الوطن قبل الأجانب. كلنا يريد أن يزيد حجم الاستثمارات الأجنبية منها والمحلية، ولكننا نريدها استثمارات منتجة تسد النقص وتعالج الخلل في مسيرة التنمية، نريدها استثمارات تعالج مشكلات الإسكان والبطالة والتعليم والصحة والأمن المائي والغذائي والصناعي. كلنا نريد أن نصدق الأرقام التي تعلن عنها الهيئة بين الفينة والفينة، ولكننا نريد أن نقرأ هذه الأرقام في توظيف المواطنين والارتقاء بقدراتهم ومعارفهم ومهاراتهم وموارد دخلهم.
الغريب، أن هذا الصراع على الرغم من حدته، إلا أن الطرف الرئيس فيه ما زال غائبا عنه. لم نسمع أو نقرأ إلى الآن أي رد من متحدث رسمي من الهيئة حول القضايا التي يتناولها الإعلام بالنقد والتحليل والهجوم أحيانا، ولم نجد حتى الآن أية إجابة رسمية شافية على ذلك الكم الهائل من التساؤلات التي تشهدها ساحة الإعلام. لا أظن أن الهيئة لا تملك القدرة على الرد، ولا أظنها لجأت إلى استكتاب أحد من كتاب الدفاع ليكون لسان الهيئة غير الرسمي، ولا أود أن تكون الحقيقة أن ليس لدى الهيئة ما تقوله في هذا الحوار. أقل ما أرجوه أن تكون الهيئة مطلعة على ما يدور في هذا الحوار، وأن ينعكس إيجابا على سياساتها وآلياتها، على الأقل، لتثبت أن لها أذنا صاغية، وأنها تحمل الاعتبار لدور الإعلام في دعم جهود التنمية، ونقل مرئيات الشارع إلى المسؤولين.
أختم بتوجيه دعوة خالصة إلى الإخوة الكتّاب في جانبي الصراع، ليكونوا مثالا للإعلام الواعي والفاعل، وأن يلتزموا أصول وأخلاقيات العمل الإعلامي، وأن يوحدوا جهودهم ليكون هدفهم الأسمى تحقيق المصلحة الوطنية في إطار من الاحترام المتبادل والموضوعية المهنية، فكلنا أبناء هذا الوطن، وله منا جميعا كل الحب والإخلاص.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي