الخروج الكبير

لا مستقبل لمستعمر مهما طال الأمد, تلك حكمة يشهد عليها التاريخ. ومن كان يصدق أن البرتغال وبعد أكثر من 500 عام في أنجولا وموزمبيق وغينيا بيساو والرأس الأخضر ومستعمرة جوا في الهند, ستخرج كسيحة ذليلة؟! ومن كان يتصور أن البيض في زيمبابوي (روديسيا سابقا) أو جنوب إفريقيا سيسلمون الزمام للسود ويقبلون الامتثال لحكمهم بعدما أذاقوهم صنوف العذاب والمهانة؟
والأمثلة كثيرة, لكن الذي يهمنا الآن هو بدء مسلسل الانسحاب الأمريكي من العراق ثم أفغانستان. حقا نلاحظ أن الأمريكيين يتعاملون بمنطق الحملات التأديبية Admonishing Expeditions, وهي سياسة تعتمد على إرسال قوة جبارة إلى بلد ما للحصول على ما يريده الطرف القوي. وكان الرومان أول من اخترع هذه الاستراتيجية, ويبدو أنها راقت للأمريكيين بشدة, جربوها في كوريا, لكنهم لم يذهبوا وحدهم فتقاسموا الهزيمة والنصر مع 15 دولة.
وجاء دور فيتنام التي قرروا وراثتها عن فرنسا, وكانت الهزيمة المذلة والخسائر النفسية والاقتصادية والعسكرية الكبيرة. وبعد هجوم "تيت" أي سبتمبر (تحين ذكراه الثلاثين هذه الأيام), أصبح الخروج من فيتنام الشغل الشاغل لواشنطن. وبعد محادثات مضنية سنة 1972 بين إكسوان ثوي وهنري كيسنجر انسحب الأمريكيون تحت وابل من ضربات فيتنام الشمالية وألفيت كونج في فيتنام الجنوبية, وأصبح نجوين فان ثيو ونجوين كاو كي عمالا في بارات أمريكا لأنهم ربطوا مصيرهم بمستعمر ذاق الهزيمة الساحقة.
وننقل كاميرا التعليق إلى الحاضر, فبعد سبعة أعوام من غزو العراق, يبدو أن لحظات النهاية قد أوشكت على أن تأتي, ولأن لكل بداية نهاية فإن أشرس قتال ذاقته أمريكا منذ فيتنام على مشارف التوقف. لقد تكلفت الولايات المتحدة حسب إحصائياتها 4425 قتيلا, وهو رقم إعلامي, لأن القتلى أضعاف هذا الرقم, لكن الإسرائيليين أسكنوا في وجدان الأمريكيين أن العرب والمسلمين مهما ادعوا صداقة أمريكا يسعدون بكثرة الخسائر. المهم أن أوباما وضع جدولا تنسحب به القوات المقاتلة في صيف العام المقبل, أما باقي القوات فستنسحب مع نهاية العام نفسه.
ونتساءل: لماذا هذا الانسحاب مع أن كل شيء يشير إلى هيمنة وسيطرة أمريكية, مع ادعاء بالسيادة على كل شيء؟ والإجابة ذكر جزءا منها باراك أوباما, الذي قال: إنها حرب جلبت الفُرقة إلى الولايات المتحدة وكلفتنا العديد من الأصدقاء في الخارج. فمن الواضح أن أوباما استمع من زعماء العالم الذين قابلهم, ما يتنافى مع ما زعمه المحافظون الجدد بزعامة ديك تشيني ورئاسة جورج دبليو بوش من أن كل أصدقاء أمريكا رحبوا بهذه الحرب.

وماذا كانت نتيجة الحرب؟
أولى النتائج تدمير العراق ونهب ثرواته بين المحتل والعملاء, وقيام العديد من الثورات الوطنية والصراعات الطائفية, وهو مطلب استراتيجي إسرائيلي ـــ أمريكي, فضلا عن زيادة نفوذ كل من يحمل السلاح. وتحدث أوباما عن ضحايا الحرب من الأمريكيين, لكنه لم يذكر شيئا عن أرقام القتلى العراقيين شأن الإعلام الأمريكي الذي يكذب بالإخفاء دائما.
ومع اهتمام وسائل الإعلام العالمية بالخبر قال أوباما إن من بين 142 ألف مقاتل أمريكي, سيغادر رقم يراوح بين 92 و107 آلاف في آب (أغسطس) المقبل. وستبقى قوات تتولى تدريب القوات العراقية وقوات تتولى التصدي لرافضي الاحتلال, الذين تسميهم أمريكا الإرهابيين.
وبطبيعة الحال فإن ما كتبه رجال جورج بوش على صخرة كبيرة بأن المهمة تحققت Mission Accomplished أصبح هباء منثورا. وعندما ذهب بوش وسائر المحافظين الجدد رواد التحالف المسيحي الصهيوني إلى العراق أدخل في روع العالم ولقنها للعملاء الإعلاميين في أنحاء العالم أنه ذهب إلى العراق من أجل إقامة دولة نموذجية يمكن أن تكون منارة إرشاد لباقي دول المنطقة. ودعونا نرى حصاد بوش: خرائب وأحقاد وحرب أهلية وبؤس ومعاناة رغم ثراء العراق, لأن الهدف لم يكن إقامة دولة بل نهب دولة.
وللإنصاف فإن أوباما كان قد أعلن في حملته الانتخابية أنه سيعمل على سحب القوات من العراق, وربما كان هذا الوعد سببا في نجاحه ولذلك فهو يمضي قدما نحو تحقيق ذلك.
لكن السياسة بوجهها القبيح الذي يعرفه الجميع لا تعترف بوعود لكن بمصالح, فما مصلحة واشنطن في الانسحاب الآن؟ والإجابة تتلخص فيما يلي:
** توفير مليارات الدولارات.
** تجنب فقد المزيد من الخسائر البشرية.
** محاولة رسم صورة نظيفة للولايات المتحدة, كتلك التي تم رسمها عبر آلاف
الأفلام ومشروع مارشال وما بعد الحرب العالمية الثانية.
** تقليص نفوذ تجار الحرب وعلى رأسهم مجموعة أوماها التي تنتعش من بيع
الأسلحة والذخيرة.
** التوجه إلى الداخل حيث المشكلات الاقتصادية عارمة وآخذة في التفاقم.
وعلى الجانب الآخر, لا يريد الزعيم الجمهوري ماكين, رغم موافقته على قرار أوباما, أن ينهي الحرب ويخرج من العراق لإعطاء مزيد من الفرص للشركات الأمريكية التي ستعمل في إعادة البناء. ويقول بعض المحللين إن أوباما أراد أن يدمر فكرة أن بلاده استعمارية, لذلك فإنه بالقرار الذي اتخذه بالانسحاب إنما يقول للعراقيين إن الولايات المتحدة ليس لها مطامع في أراضيهم أو ثروتهم. ويؤكد أن حقبة جديدة قد هلت وقوامها المشاركة والقيادة الناعمة لتحسين صورة بلاده بعدما تأكد له أن القوة لن تجدي في تغيير أي شـــيء.
ويفسر بعض المراقبين قرار الانسحاب بأنه لا يعدو مجرد تحريك مختلف القوات أو إعادة نشر, خاصة أن معظم المنسحبين سيتوجهون إلى أفغانستان نظرا لما حققته طالبان أخيرا من انتصارات والخسائر المتوالية التي ألمت بالقوات الحكومية الأفغانية وقوات التحالف, ولكن كثيرا من القرارات السياسية تتطلب الغطاء السكري Sugar Coat.
وعلى الرغم من أن مسلسل الانسحاب قد بدأ كما يتصور الكثيرون, إلا أن أفغانستان وفيها 36 ألفا من العسكريين تعاني تدهورا في الموقف العسكري وعليه قرر أوباما إرسال 17 ألفا من القوات الإضافية, بل سيرسل عددا مماثلا في سنة 2011, والمتابع للانسحاب الأمريكي من العراق يلاحظ أن قوات المارينز توجهت إلى أفغانستان أو تعد العدة لذلك. وكالعادة يصيح أوباما طالبا نجدة حلفائه في حلف الأطلنطي, وإلا سيضطر إلى إرسال المزيد من القوات. إن تفاعلات العراق فرضت الانسحاب, وليست النيات الطيبة للرئيس أوباما.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي