الطب والهندسة ـ اختلاف الشبيهين

كنت دوما منذ الصغر، شأني في ذلك شأن ذلك الجيل كله، وربما عدد من الأجيال التي سبقته وتلته، وربما إلى وقتنا الحاضر والقادم، كنت أنظر إلى تخصصَي الطب والهندسة على أنهما أسمى التخصصات وأرفع المهن. وكنت دوما أرى ذلك التسابق المحموم بين خريجي الثانوية العامة لاختيار أحد هذين التخصصين ليكون مجالا للدراسة والتخصص العملي. وكنا نرى غيرهما من المجالات لا ترقى إلى مستوييهما، ولا ينتظم فيها إلا من لا يشفع له مجموعه الدراسي بذلك. هذه النظرة قاصرة بكل تأكيد، فكل مجالات وتخصصات العمل سواء في الأهمية، طالما كانت تصب في خدمة مسيرة التنمية الوطنية، وتحقق الاكتفاء الوطني لما يحتاج إليه المجتمع من خدمات وتجارة وبناء وتعليم وغير ذلك. هذا المقال لا يسعى إلى تصحيح تلك النظرة؛ لأني أعتقد أن الواقع قد فرض هذا التصحيح، وأصبحنا نرى الكثيرين من خريجي الثانوية العامة، ممن حققوا درجات عالية ورفيعة، يختارون مجالات وتخصصات للعمل بخلاف الطب والهندسة. ولكن هذا المقال يسعى إلى عقد مقارنة لواقع ممارسة هذين المجالين، الطب والهندسة، في بيئة الأعمال في المملكة، بقطاعيها العام والخاص. وأعترف مقدما بأن هذه المقارنة قد لا تحقق الموضوعية التامة أو الدقة الكاملة في الطرح؛ لأني ببساطة أنتمي إلى أحد هذين القطاعين، وهو قطاع الهندسة، ولا أعرف عن الآخر، وهو قطاع الطب، الشيء الكثير سوى ما يتعلق بمجالات المقارنة التي سأطرحها. لكنني أتطلع إلى أن تؤسس هذه المقارنة لدعوة ملحة لمراجعة مناخ ممارسة العمل في هذين القطاعين، وتحقيق طفرة نوعية ضرورية ومهمة للارتقاء بمستوى ممارستهما، خاصة القطاع الأضعف في نظري، وهو قطاع الهندسة.
ما يؤسس لهذه المقارنة ليس فقط تلك النظرة التمييزية التي أشرت إليها، لكن في كون هذين المجالين يتشابهان في كونهما ينتميان إلى التعريف الدولي، وكذلك المحلي لما يسمى بالمهن الحرة، وهي المهن التي تمارَس من قبل أفراد استنادا إلى أدائهم الإبداعي أو المهاري أو الفكري. والحقيقة أن هذا التشابه يواجه أول شكل من أشكال الاختلاف والتناقض في إطار المقارنة بين هذين القطاعين. فمن جهة، تسمح الأنظمة بممارسة الأنشطة الطبية على أسس تجارية، ويشهد الواقع وجود عديد من الكيانات الطبية من مستشفيات ومراكز طبية ومستوصفات ومختبرات، وغير ذلك من المنشآت الطبية التي تعمل ككيانات تجارية، ووفق جميع أشكال الكيانات التجارية من مؤسسات فردية وشركات تضامنية ومحدودة المسؤولية ومساهمة عامة ومغلقة، وتتمتع بمشاركة أو حتى ملكية رجالات وبيوتات الأعمال والاستثمار التي توافر لها الدعم التمويلي الذي مكَّن هذه الكيانات من أن تحقق طفرة حقيقية في مجال الخدمات الطبية في المملكة، حتى أصبحت المملكة تقارع الدول المتقدمة في مستوى الخدمات الطبية. وفي المقابل، يعاني القطاع الهندسي الأنظمة ذاتها التي تكبل وتمنع ممارسته على الأسس التجارية ذاتها، وتكرس فيه الممارسة الفردية بموجب تراخيص العمل الفردية التي تمنحها الهيئة السعودية للمهندسين، وتحرمه من الدعم والتمويل اللذين يتعطش لهما من مؤسسات التمويل والاستثمار، وتحرم المهندسين الممارسين مهنتهم من أبسط حقوقهم في توريث كياناتهم لأبنائهم، علاوة على الخطر الأكبر الذي توقعه تلك الأنظمة على الاقتصاد الوطني؛ جراء دفع الكيانات الهندسية للانقضاء والإغلاق بعد وفاة ملاكها. وفي النتيجة، أصبح القطاع الهندسي في بلادنا هشا ضعيفا مفككا، يواجه منافسة شرسة من الكيانات الهندسية العالمية، ولا يملك القدرة لتصدير تلك الخدمات خارج حدود الوطن، ويعجز عن تقديم مساهمة فاعلة وجادة في التنمية الوطنية، إلى الحد الذي أصبح فيه تعثر تنفيذ مشاريع التنمية مشكلة كبرى يلعب فيها ضعف الكيانات الهندسية دورا أساسيا. هذا الواقع كان محل العرض والنقاش في محافل كثيرة ومناسبات عدة، لكنه حتى الآن لم يحظ بالاهتمام المأمول، ولم يرتق إلى مكانه الطبيعي في قائمة الأولويات. والموضوع من الخطورة بمكان إلى أن يكون ضمن أولويات التطوير في الأنظمة، هذا إن كانت هناك نية حقيقية لمعالجة مشكلة تعثر تنفيذ مشاريع التنمية، وتأسيس مناخ مهني يدعم هذه المسيرة على المدى الطويل.
ثاني أوجه المقارنة هو في مجال التوظيف الحكومي، فالأطباء يتمتعون بكادر وظيفي خاص، فيه من المميزات والحوافز الشيء الكثير، ويوفر لهم المناخ الملائم للتميز والإبداع والارتقاء في ممارسة عملهم. وفي المقابل، تعلو الأصوات منذ فترة طويلة مطالبة بوضع كادر وظيفي خاص للمهندسين في القطاع الحكومي، الذي يعانون الأمرين ليس فقط من تماثل مستويات دخولهم مع الكثير من الوظائف الأدنى في طبيعتها ومسؤولياتها ومتطلباتها العملية، لكن أيضا في حرمانهم من الارتقاء في السلم الوظيفي مع الحفاظ على ممارسة تخصصاتهم الهندسية، إذ إن الكادر الحالي للخدمة المدنية يحصر المراتب العليا في وظائف إدارية الطابع. هذا التمييز بين الأطباء والمهندسين العاملين في القطاع الحكومي هو تمييز مجحف، خاصة إذا تذكرنا أن أولئك المهندسين العاملين في القطاع الحكومي يقومون بأعمال الإدارة والإشراف على مشروعات التنمية التي يتم التعاقد عليها بمليارات الريالات، فكيف نتوقع منهم أداء مهامهم على الوجه الأكمل في الوقت الذي يحرمون فيه من أبسط حقوقهم في دخل ملائم وعيشة كريمة؟. أجزم أن الضعف الذي نشهده في مستوى أداء إدارات المشروعات الهندسية في القطاعات الحكومية مرده الأول إلى هذا الواقع الأليم، وهو ما يشكل سببا آخر من أسباب تعثر تنفي مشاريع التنمية. وتكتمل بذلك حلقة الضعف بين كيانات هندسية متهالكة المستوى، وإدارات هندسية ضعيفة منهكة بأعباء الحياة.
الوجه الثالث، هو في قضية المرجعية التنظيمية. فالقطاع الطبي يتمتع بمرجعية موحدة تشكل فيها وزارة الصحة المنظم الأشمل والأوحد لممارسة المهن الطبية في القطاعين العام والخاص. وحتى هيئة التخصصات الصحية ترتبط ارتباطا وثيقا بوزارة الصحة، ويرأس مجلس إدارتها وزير الصحة، وترتبط آلياتها وإجراءاتها بوزارة الصحة. ومن جهة أخرى، نرى أن القطاع الهندسي يعاني غياب المرجعية العليا، وتتشتّت مسؤولياته بين عديد من القطاعات والهيئات والأجهزة الحكومية، فهيئة المهندسين السعوديين تعاني تداخل صلاحياتها مع بعض الجهات الأخرى، ومنها وزارة الشؤون البلدية والقروية ووزارة التجارة ووزارة المالية والهيئة العامة للاستثمار. كما أن ممارسة الأعمال في القطاع الهندسي لا ترتبط ذلك الارتباط الوثيق بتلك الهيئة، خاصة أن المهندسين العاملين كافة في القطاع الحكومي لا يلزمهم النظام بالانتساب إلى الهيئة، ولا بالحصول على ترخيص بالعمل الهندسي، بخلاف واقع ممارسة الأعمال الطبية، الذي يفرض على جميع الأطباء في القطاعين العام والخاص الانتساب إلى هيئة التخصصات الصحية والحصول على ترخيص بالعمل منها بشكل دوري. إن توحيد المرجعية في رأيي قضية مهمة لأي قطاع، والقطاع الهندسي أحد أهم تلك القطاعات. إذ إن تلك المرجعية الموحدة يمكن أن تؤدي دورا فاعلا في إدارة شؤون هذا القطاع، والبعد عن تضارب وتداخل الصلاحيات، الأمر الذي يمكن أن يؤسس لمعالجة شاملة لظاهرة تعثر تنفيذ المشاريع، عوضا عن الحلول المجزأة والمفككة التي تصدر بقرارات متناثرة وأحيانا متعارضة من تلك الأجهزة المتعددة التي تختصم الاختصاص في شؤون ذلك القطاع.
الطب والهندسة في المملكة شبيهان مختلفان، كتوأم يربيهما والداهما معا، فيميزان أحدهما عن الآخر، فيحظى أحدهما بكل الدلال والاهتمام، ويحظى الآخر بالتجاهل والتقصير. المشكلة، أن القطاع الذي يعاني هذا التمييز المجحف هو في الحقيقة القطاع الأهم. فخطأ الطبيب، مع شدة خطورته، ينجر بالضرر على فرد واحد هو المريض الذي يعالجه، وربما تتسع دائرة الضرر لتصيب أهله وذويه. أما خطأ المهندس فيمكن أن يصيب مدينة كاملة بالشلل أو الموت، وينجر هذه الضرر على كل سكانها أطفالا وكبارا، رجالا ونساء. فهل لنا أن نعي حجم خطورة وأهمية هذا القطاع؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي