على هامش تقرير مؤسسة النقد
أفضل ما جاء في تقرير مؤسسة النقد الأخير تضمينه وجود ثلاثة تحديات تواجه الاقتصاد المحلي، هي: خلق فرص عمل، وحسن استخدام الموارد، وتوفير السكن للمواطنين. وفي مؤتمره الصحافي الأخير تفاءل محافظنا الفذ الدكتور محمد الجاسر بأن الناتج المحلي الإجمالي للمملكة سيكون خلال العام الحالي أفضل بكثير مما تحقق العام الماضي، مرجحا نمو ذلك الناتج ليصل إلى 3.5 في المائة، بالنظر لمتانة اقتصادنا وإلى حصافة سياساتنا المالية والنقدية التي أسهمت في تجنيب الاقتصاد السعودي مخاطر الأزمة المالية الدولية.
ومع تقديري لحصافة سياستنا الاقتصادية، إلا أننا نعلم أن متانة اقتصادنا حتى الآن تعود بالدرجة الأولى إلى تماسك أسعار النفط. وفي رأيي أن القوة الحقيقية لاقتصادنا ليست في مجرد تحسن المؤشرات الكلية فقط، بل إنها في الاستراتيجية التي تضعنا على الطريق الصحيح لبلوغ آمالنا وإحداث تغيير نوعي في صروحنا الصناعية، وقلاعنا التعليمية، وخدماتنا الصحية، وأساليبنا الإدارية، والتزاماتنا المنهجية، حيث تفضي بنا في نهاية المطاف إلى دخل وطني أكثر تنوعا وأفضل توزيعا. أما ما عدا ذلك فسيظل اقتصادنا حرجا يراوح مكانه، نطمئن إذا تماسكت أسعار النفط، وتتراجع جهودنا إذا انكمشت عوائد النفط!
ليس الإشكال ولم يكن في وجود تحديات اقتصادية، وإنما كل الإشكال عندما لا نكون سائرين على الطريق الذي يقودنا لحل مشاكلنا. والملاحظ ـــ للأسف ـــ أننا ما زلنا نعالج تحدياتنا الاقتصادية بالطرق التقليدية البطيئة نفسها التى لا تناسب روح العصر بتحدياته المتعاظمة والمباغتة. فالأحداث تسبق قراراتنا العلاجية، وكثيرا ما تأتي هذه القرارات متأخرة، بدلا من أن تواكب التحديات، فضلا عن أن تسبقها عند ظهور مؤشرات أولية على وجود عواصف اقتصادية مقبلة. كما أننا لا نرى أثرا للمراجعة والحساب، والأخطر هو أن ما نفعله اليوم يعكس إلى حد بعيد ما سيكون عليه حالنا في المستقبل. (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ). ويبدو أن إدارة شؤون الاقتصاد في بلدنا لا تسير (عمليا) وفق رؤى استراتيجية وبرامج تنموية وأهداف اقتصادية واضحة وملزمة! وإن وُجدت هذه الرؤى والأهداف نظريا لا نرى لها أثرا عمليا في حياتنا. ومع أن لدينا وزارة للتخطيط والاقتصاد، إلا أن الجميع يكاد ينسى وجودها؛ لأنها غدت أكثر الوزارات غيابا، فنحن لا نكاد نجد لها حضورا، أو نرى لها دورا، أو نسمع لها صوتا، تجاه التطورات الاقتصادية التي داهمتنا وتداهمنا، حتى بات المرء يشعر بأن طريقة إدارة اقتصادنا لا تخرج عن أن تكون ردود أفعال لما يحدث، وشبيهة بتصريف الأعمال اليومية لمصلحة حكومية تقليدية!
وحالنا أنه كلما دهمتنا ظاهرة أو مشكلة اقتصادية رأيناها تعيث في طول البلاد وعرضها تأثيرا وتعطيلا وتأخيرا، حتى إذا بلغت الأمور الحلقوم بدأنا نتحرك تحت ضغط الرأي العام، لكنه تحرك عجيب يبدأ غالبا بنفي وجود المشكلة، ثم في مرحلة لاحقة يأخذ رد الفعل شكل التهوين أو التقليل من شأنها، فإذا استفحلت خرجت التصريحات التي تبرر المشكلة في زيادة الضغط على الخدمة أو سوء الاستخدام، ثم يعدِون بالبحث عن أسباب المشكلة وتشكيل لجان لدراستها. والعجيب أن جُلّ أعضاء هذه اللجان هم من الهيئات الإدارية التي صنعت المشكلة أو كانت سببا في استفحالها، شاهدنا ذلك في أزمة سوق الأسهم، ونشاهده اليوم فيما لحق اقتصادنا من مظاهر الاختناق الشديد في النقل الجوي، وقبل هذا وذاك رأيناه في قضايا أساسية لا تقبل التأجيل أو الهروب من المسؤولية، كاستفحال ظاهرة البطالة، نقص خدمات التعليم العالي نوعا وكما، تخلف قطاع الإسكان، وتعطل بعض مشاريع البنية التحية أو المبالغة في تكاليفها، إلى آخر هذه المشكلات.
إن من أهم أسباب تأخر الحلول ضبابية المنهج الذي نسيّر عليه اقتصاديا، فلا نعرف هل نحن مع حرية السوق والمنافسة أم مع القرارات المركزية والاحتكارات المرعية! في الوقت الذي تقطع فيه الشواهد وتؤكد الحقائق، أن اقتصادنا زاخر بالموارد والفرص الهائلة. وهو مؤهل، دون أدنى مبالغة وبشكل قد يثير دهشة البعض؛ كي يتبوأ مكانة رفيعة بين اقتصادات العالم. فهو أكبر اقتصادات المنطقة العربية حجما، وأكثرها ثراء بالفرص الاستثمارية الفريدة، وأوسعها سوقا، وأوفرها حظا بالموارد، وأكثرها إغراء من حيث القوى الشرائية. وأقواها تمتعا بالاستقرار السياسي الجاذب لرؤوس الأموال الإقليمية والأجنبية. ولا ينبغي لنا في ظل هذه الفرص الزاهرة والمزايا الباهرة، أن نتأخر في التفوق على أنفسنا وتجاوز مشكلاتنا، بتطوير طريقة إدارة اقتصادنا، وتحسين أسلوب استغلالنا لمواردنا. فليس هناك ما يضمن تكرر الفرص، وإن تفويتها قد يكلف حكما قاسيا من قبل التاريخ والأجيال المقبلة. علينا إصلاح الأسس التي يقوم عليها نظامنا الاقتصادي لتوفير البيئة الاقتصادية الصحية التي تعيننا على وضع حلول لمشاكلنا، وإلا سنصادف مزيدا من المتاعب والعقبات الإدارية التي لن تجعل لأية إجراءات اقتصادية تأثيرا يذكر.
إن مما لا شك فيه، أن التفوق الحقيقي الذي يضمن حل مشكلاتنا واللحاق بالآخرين هو التفوق على النفس أولا. والتفوق على النفس يكون بالإيمان بالقدرات وبتفجير الطاقات وبالنظرة الإيجابية للحياة وبالتخلص من اليأس وبالرغبة الصادقة في الإنجاز. والنظرة الإيجابية للحياة تعني النظر إلى جملة التحديات كمصدر لشحذ العزائم وتجديد الهمم. الحياة فرص، والفرص لا تطرق الأبواب، بل يجب نزعها انتزاعا. في كتابه الشهير Head to Head قال الاقتصادي الأمريكي لستر ثرو Lester Thurow، وهو يتحدث عن اقتصاد أمريكا في التسعينيات الماضية وقبل الأزمة الراهنة: ''ليس السؤال ماذا يجب علينا أن نفعل؟ بل السؤال هو: كيف نجبر أنفسنا على عمل ما نعلم أننا في حاجة إلى عمله''؟