الشركات متعددة الجنسيات والعولمة
نحن في عالم يطلق عليه مجازا القرية الصغيرة ذات الثقافات المتعددة ، وفق أطر اقتصادية متنوعة ، تؤثر بشكل مباشر في مسيرة الحياة الاجتماعية لأي مجتمع من خلال النمط السلوكي المتغير بآثاره الاقتصادية ، وما ذلك إلا لتنامي عمليات توسع الأسواق كنتيجة لفك القيود وتحرير التجارة مع نقل الملكية من القطاع العام إلى القطاع الخاص أو ما يسمى بالعولمة الاقتصادية.
شهد العالم تطورا سريعا في الآونة الأخيرة، في مجالات عدة كتقنية المعلومات والاتصالات وفي الأنشطة الاقتصادية بتحرر الأسواق، وخاصة أسواق المال، وفي شكل العلاقات الدولية والوعي الاجتماعي. وهذا ما يمثل امتداد تطور الرأسمالية مرورا بالثورة الصناعية إلا أن هذا التطور المتنامي في سرعته لم يكن وليد اللحظة ، فأصبحنا أمام واقع معايش يسمى ( العولمة ) كما لو كانت تعني التقدم والرقي , أو على العكس من ذلك ، تؤدي إلى ذوبان الهوية والأصالة واندثار القيم والعادات التي يتوارثها أفراد المجتمع جيلا من جيل , ويظل تحت هيمنة الشركات متعددة الجنسيات التي تشهد نموا ملموسا.
فالعولمة قد تؤدي إلى القضاء على الاقتصاديات الوطنية في سبيل إقامة الأسواق العالمية ، ليس هذا فقط ، بل إنها تسعى لتغليب فكرة السوق على ما عداها ، وإخضاع السلوكيات الاجتماعية في المجتمعات لمنطق السوق ، وهذا لا ينحصر في تجارة السلع بل يتسع ليشمل مجالات أخرى تمس الحياة الشخصية ، وانفعالاتها تجاه الآخرين. وقيام الأسواق وتوسيعها ، وتغليب منطق السوق بفرضه على مختلف أجزاء الاقتصاد الأخرى واستيعابه لها وإدماجه تدريجيا لها . فالتاريخ الاقتصادي يبين لنا توسع ظاهرة المبادلة وفكرة السوق , وتحولها من ظاهرة عرضية على هامش الاقتصاد التقليدي إلى ظاهرة عامة شاملة تتسع بشكل مطرد لتستوعب بقية أجزاء الاقتصاد بل والمجتمع . ومما يساعد على نمو العولمة:
• تقليل القيود على التجارة والاستثمار ، حيث ترتب على الجولات الثماني للمفاوضات متعددة الأطراف التي تمت في إطار الجات خفض معدلات الضرائب الجمركية على السلع الصناعية من (40 في المائة) في المتوسط عام (1974 م ) إلى نحو ( 5 في المائة ) عام (1990م ).
• إلغاء القيود على حركة رؤوس الأموال في الدول المتقدمة ، في الوقت الذي بدأت فيه الدول النامية في تخفيف القيود وتبسيط الإجراءات وفتح المجالات أمام رؤوس الأموال الواردة للاستثمار الأجنبي المباشر.
• التقدم التكنولوجي في مجال ثورة المعلومات وتقنية الاتصالات الذي أتاح المجال لتنسيق مختلف الأنشطة الاقتصادية للشركات متعددة الجنسيات في مختلف الدول وبتكاليف منخفضة ، حيث ساعد على التغلب على الحواجز المكانية والطبيعية والزمنية.
• تحرير الدول النامية والاشتراكية لاقتصادياتها حيث تخلت أكثر من (30 ) دولة عن التخطيط المركزي ، كنموذج لتخصيص الموارد النادرة ، كما حررت أكثر من (80 ) دولة إجراءات تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إليها، والتحول نحو الخصخصة ، وإصلاح الاختلالات الهيكلية ، مما ساعد على التواصل السريع بين الدول عبر الحدود، و أوجد نوعا من التقارب في السياسات الاقتصادية بين الدول.
وكان للاستثمار الأجنبي المباشر ، وأيضا للشركات متعددة الجنسيات الدور البارز والرئيس في انتشار هذه الظاهرة من خلال تطور المعاملات والأنشطة الاقتصادية المختلفة ، وزيادة حجم الاعتماد المتبادل بين الدول ، حيث نلمس تسارع وتيرة العولمة وأثرها في الاقتصاد العالمي.
إن فهم تصرف الشركات متعددة الجنسيات وما يترتب على ذلك في دول هذه الشركات والدول التي تعمل فيها, قد تطور إلى حد كبير في العقد الماضي فتشير الدراسات في مجال الاستثمار الأجنبي المباشر إلى أن جودة الاستثمار ذات علاقة وثيقة باقتصاد الدولة المضيفة له ، ولا ينبغي أن يكون الحافز لتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر للدولة المضيفة مجرد حاجة تلك الدولة لإصلاح الخلل في ميزان المدفوعات أو تغطية أعباء الديون الدولية ، ولكن يجب أن يكون داعما ومؤثرا بإيجابية لإعادة الهيكلة الاقتصادية في الدولة المضيفة له ، فمن من خلال توسع نشاطات الشركات متعددة الجنسيات يمكنها أن تساعد على نقل التكنولوجيا ، حل مشكلة البطالة ، تحسين اقتصاد السوق ، فتح آفاق التصدير ، خفض التكلفة الإنتاجية مع زيادة الإنتاج ، ورفع كفاءة أداء الاقتصاد في الدولة المضيفة له. على الرغم مما قد يقال إن ذلك قد يؤدي للسيطرة على الأسواق المحلية. فالشركات متعددة الجنسيات قادت الاستثمارات الأجنبية المباشرة منذ أكثر من مائة عام وأثرت بشكل مباشر فيها ، خاصة بعد عمليات الدمج والاستحواذ التي أدت إلى ما يشبه الثورة في تنامي الاستثمارات الأجنبية المباشرة . a إن العولمة والشركات المتعددة الجنسيات ساعد كلا منهما الآخر، فالشركات متعددة الجنسيات أسهمت بشكل فعال وإيجابي على الاتجاه نحو العولمة والانفتاح ، والمناخ الاستثماري الجيد زاد من نمو أنشطة الشركات متعددة الجنسيات ، كما أن العولمة ساعدت على نمو الشركات متعددة الجنسيات من خلال تطور نظم الاتصالات وتقنية المعلومات التي أسهمت بشكل إيجابي في توسع أنشطتها في الدول المختلفة.