كرم الضيافة لا يستحق الشكر

من ضمن التصرفات التي لاحظها الخبراء في الشأن الاجتماعي قلة استعمال مصطلحات الشكر في المجتمعات الفقيرة والبدوية والفلاحية، والاستنتاج الذي توصلت إليه الدراسة, أن الناس الذين ينتمون إلى تلك المجتمعات يعتقدون أن الأمر الذي نتوقعه من الآخرين لا يتطلب منا الشكر. فالناس معتادة أن تستقبل وأن تستضاف من ضمن طقوس العادات والتقاليد من دون أن تكون هناك حاجة إلى المزاوادات الكلامية, وسيكون مستهجنا لمن ينتمي إلى تلك المنظومة الاجتماعية أن يقترح عليه مثلا أن يرسل "بطاقة شكر" أو أن يرسل عبر الإنترنت الكليشيهات المعتادة من فنون الإيتيكيت الاجتماعي, وفوجئ الدارسون ممن قاموا بتلك الاستطلاعات بالكثير من العادات التي تنظم حياة تلك المجتمعات, ومنها اعتبار كلمة "أشكرك" إهانة, لأنها في اعتقادهم بمنزلة وضع نهاية لمعاملة ما. وقد تكون كلمة "أشكرك" ذاتها هي البديل المهذب والضعيف في الوقت ذاته، وقد تكون هناك ندرة في استخدام عبارة "من فضلك" في بلدان العالم الأقل في انفتاحها التجاري والاقتصادي, لكنه يدلل على مزيد من الاهتمام المتبادل لا نقصا في الأدب أو لعل الأدب نفسه علامة على اختفاء الشعور الصادق.
وكانت ملاحظة علماء الإنثروبولوجيا أنه كلما كانت هناك محدودية في الأعمال التجارية في منطقة ما, ترافقت معها قلة مصطلحات الكياسة والتنميق. وعندما يتوسع التبادل التجاري للبضائع ليشمل زبائن ومناطق جديدة كانت تتزايد معها جمل الترحيب والتهذيب والشكر.
وقد بين العلماء أن منظومة التجارة والتصنيع تحتاج لأن تعيد النظر في تركيبة منطق الأعمال والتعامل مع البضائع والسلع بمزيد من الاحترام. وتشجيع تبادل الأشياء المستعملة بين الناس لأن موارد الأرض محدودة ولم يعد مقبولا أن يواصل البشر في نهبهم لخيرات الأرض إلى ما لا نهاية.
ومن ضمن الأمثلة في طبيعة التبادل، التي لا تزال متواصلة حتى اليوم منظومة الأعمال التجارية التي تحكم حلقة من الجزر في المحيط الهادي. فتبادل السلع الصعبة كالماشية، والبطاطا، والزوارق، والفخار يسبقه تبادل للأساور والعقود التي تحظى بتقدير أكبر لدى التجار, من الماشية أو الزوارق. فكانت العقود تنتقل في اتجاه عقارب الساعة بينما تسافر الأساور في الاتجاه العكسي، حيث يعد الحصول على تلك الحلي الهدف الرئيسي من تلك التجارة، وكل ذلك يتم دون مساومة عليها. كما تنتفي النوايا بين سكان الجزر باكتناز تلك المصوغات. فالفرصة متاحة لكل فرد أن يقتني واحدة من تلك الأشياء بعض الوقت ثم يعطيها لغيره على الضفاف الأخرى.
لكن من أكثر الأمثلة إمتاعا التي ساقها إلينا العلماء ما عايشوه لدى "هنود قبيلة الكواكيوتل" على الساحل الكندي للمحيط الهادي، التي تعد النقيض الأمثل من ثقافة السوق وصراعاته, فأفراد القبيلة تربو على معتقدات وتقاليد أن الوصول للمكانة المرموقة والزعامة في مجتمعهم تمر عن طريق التنافس في التنازل عن ممتلكاتهم، بل حتى تبديدها مع أندادهم، وكانت مهرجانات التنازل عندهم تستهدف تفتيت الملكيات، حتى أنه في إمكان المرء أن يستدل على رئيس القبيلة بأن يسأل عن أفقر إنسان فيها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي