إلى الشرق.. دُرْ ! (3)
صحيح أن الاقتصاد الأمريكي ما زال هو أغنى اقتصاد في العالم، وما زال لدى الأمريكان من المقومات الاقتصادية ما يجعلهم قادرين على المنافسة الاقتصادية في القرن الـ 21 لو تسنى لهم استغلال هذه المقومات بشكل فعال. فأمريكا ما زالت بلدا متقدما تقنيا في نواح عديدة وإن كانت قد تخلفت في نواح أخرى محدودة. ولذا بقي متوسط الدخل الفردي والإنتاجية الأمريكية الأعلى عالميا، لتفوق قواها العاملة الجامعية المؤهلة تأهيلا عاليا، ولسوقها المحلية التي ينظر إليه باعتبارها الأكبر والأكثر تجانسا عالميا. غير أن دوام الحال من المحال! فقد سمح الأمريكان لنظامهم التعليمي بالتراجع والضمور في العقود الثلاثة الأخيرة، كما سمحوا لإنفاقهم الاستهلاكي بالنمو بمعدلات عالية، على حساب الاستثمار، من خلال ترك ديونهم الخارجية تنمو بشكل هائل. حتى غدا متوسط الاستثمار في الأصول الرأسمالية لكل فرد في القوى العاملة، يعادل نصف نظيره في ألمانيا، وثلث نظيره في اليابان. كما قل الإنفاق على البحث والتطوير للأغراض المدنية بنسبة تراوح بين 40 و50 في المائة عنه في ألمانيا واليابان.
ولن يتسنى للاقتصاد الأمريكي المحافظة على موقعه المتقدم والمنافسة في العقود المقبلة، دون أن يتحول من اقتصاد عالي الاستهلاك منخفض الاستثمار، إلى اقتصاد كثير الاستثمار قليل الاستهلاك. بيد أن الولايات المتحدة تحتاج إلى رفع مستويات الاستثمار، أن تجعل معدل نمو الاستهلاك العام والخاص يسير بوتيرة أبطأ بكثير من نمو الناتج لفترة زمنية طويلة نسبيا. علة الأمريكان أنهم ركنوا خلال نصف القرن الماضي لما هم عليه، فلم يحسنوا لعبة المنافسة ولم يجيدوا لعبة العودة إلى صناعة رئيسة أبعدها عنها منافسوها الأجانب. فيما نجح المنافسون خلال هذه الفترة في التكيف مع مرحلة الهيمنة الأمريكية ووضعوا استراتيجيات اقتصادية زاحموا من خلالها هذا التفوق الأمريكي (حالة اليابان سابقا، والصين الآن).
ويرى كثير من المراقبين الاقتصاديين أن الأمريكان لا يعترفون بأنهم تخلفوا عن ركب المنافسة، وبسبب هذا الاعتقاد لم يبادروا إلى إجراء التغيرات اللازمة للبقاء في حلقة المنافسة. وسيواجهون ذات المصير الإنجليزي الذي جرى في بداية القرن الـ 20. فقد بدا آنذاك أن دولا أخرى على وشك أن تلحق وتسبق بريطانيا، بيد أن الإنجليز لم يشعروا بهذا التحدي الاقتصادي أو لم يحفلوا به، وقرروا الانتظار ليروا إن كان بالإمكان أن يسبقهم أحد، وقد حصل! فقد تقدم عليهم غيرهم ولم يفلح بعدها الإنجليز في اللحاق بغيرهم مطلقا! لذا يؤكد الاقتصادي الأمريكي: لستر ثرو، أن الدولة الذكية المهتمة بضمان مستقبلها هي التي تفرض الأسوأ وتبدأ في مهمة الحفاظ على سرعة الإنجاز والأداء في وقت مبكر. ولن يتسنى لها ذلك إلا بتحديد المنافسين وسبب تفوقهم، ثم تحديد خطة الوصول إلى نقطة التعادل معهم أولا، ثم هدف التفوق عليهم ثانيا. وهذا ما يبدو أن الآخرين في شرق العالم قد وعوه ونفذوه، اليابان فالنمور الآسيوية ثم الصين والهند.
يعتقد البعض أن الأمريكان يملكون الإرادة، وقد يكون هذا صحيحا، لكن المشكلة ليست مشكلة إرادة فقط، فلا يتغير مجتمع نحو الأحسن لمجرد أنه يملك إرادة التغيير. الإرادة الوطنية الصحيحة تنبع من إدراك واسع بأن العالم اليوم ليس كالعالم قبل 50 عاما، فقد تغيرت أشياء كثيرة وبسبب هذه التغييرات الخارجية لا بد من تغييرات داخلية. لكن مشكلة الأمريكان هي الغرور! فهم لا يعترفون بالقصور وساستهم يميلون منذ عهد ريجان للتفاؤل الكاذب (منذ قال لهم ريجان قفوا بشموخ، Stand tall، ومنذ ذلك اليوم أصبحت الانتخابات الرئاسية منبرا للمزايدات في إنكار وجود أي مشكلة). إنهم مقاومون لفكرة تغيير نظامهم لأنهم يرونه الأفضل دائما! والعجيب أنه عندما يخفق النظام الاقتصادي الأمريكي – كما يحدث بين الحين والآخر- لا يتحرى الأمريكيون مواطن الخلل والإخفاق، بل يفتشون عن الأشرار الذين أفسدوا نظامهم المثالي! وهذا بالضبط ما يحدث الآن فعلى الرغم من الجريمة الاقتصادية الكبرى التي ارتكبها نظامهم المصرفي والمالي في حق العالم ودفع به لأكبر وأعمق تجربة كساد شهده العالم عبر تاريخه، فإنك لا ترى اعترافا بالجرم ورغبة في إصلاح حقيقي للنظام الذي أطبق مع الأسف على أنفاس العالم، بقدر ما ترى رغبة قوية لدى الأمريكان في تحميل غيرهم مشكلات اقتصادهم.
العالم يمر بمرحلة تحول تاريخية، ولو دامت القوة لبريطانيا لما انتقلت لأمريكا، فلماذا يصر البعض على الادعاء أن القوة باقية وستبقى أمريكية، بينما شواهد كثيرة تقول إنها تنتقل تدريجيا نحو الشرق؟ معرفة ما يجري في العالم مهمة جدا لترشيد قراراتنا الاقتصادية وعلاقاتنا الدولية.