تقسيم السودان: هل هو حل لمشكلة أم حلقة جديدة في مؤامرة؟

ما إن تبرز كلمة مؤامرة حتى تسارع الأقلام الأمريكية المستعربة إلى السخرية منها ونفي وجود أي مؤامرات والإصرار على أن هذا الطرح يمثل هروبا من الفشل لمَن يدّعي وجود مؤامرة. ولا نختلف على أن الكثير من الكوارث والمصائب سببها نحن أهل المنطقة ولكن الحقائق دامغة والأدلة ماحقة على أن الولايات المتحدة تحقق الكثير من مصالحها عبر بوابة التآمر.
قلنا في غير موضع إن الدول الاستعمارية الكبرى التي لم تتخل أبدا عن أساليبها في الهيمنة تحسد الدول الفقيرة على مساحات أرضها الكبيرة وهو أشبه «بحسد الغجر على ضل الشجر»، كما يقول المثل المصري وزاد الطين بلة والحطب لهيبا أن الربيبة الحبيبة إسرائيل تعاني من مساحة محدودة، بل إن هذه المساحة المحدودة مهددة من وجهة نظر إسرائيل بالتقلص لدى تطبيق الحل النهائي. وعندما يتطلع الصهاينة جنوبا وشرقا يجدون أراضي ممتدة في العراق، ولذلك نزلت عليها النازلة الأولى. وبعد سلسلة قبيحة من الادعاءات الأمريكية عن تملك العراق لأسلحة نووية وبيولوجية وكيماوية ولجيش هو الرابع على مستوى العالم، بدأ تجنيد العالم ضد العراق، وسحبت في ركابها جيوش الساسة الخائفين والطامعين، وكان ما كان.. وهل تحسن العراق؟ وهل أصبح بؤرة ديمقراطية؟ وهل زاد رخاء الشعب العراقي؟ الذي حدث هو العكس تماما، فالعراق الموحد بصعوبة أصبح مرشحا للتقسيم، والشيعة يعدون العدة للالتحام بإيران والأكراد في تحالف استراتيجي مع إسرائيل منذ أيام الملا مصطفى البارزاني يزمعون إنشاء دولة كردستان التي ستسحب أكراد إيران وأذربيجان وسورية مع العراق وإن ظلت تركيا هي العقبة الكبرى. أما الآشوريون والكلدانييون وغيرهما فمكانهم المهجر في كندا.
وتوجهت كتائب التقسيم إلى أفغانستان، ومن حسن الحظ أن هذا الشعب الرائع قاهر الإنجليز في ممر خيبر وقاهر السوفيات سيذيق الأمريكيين نصيبهم من الشنار والعار والهزيمة.
بعد كل ذلك اتجهنا إلى إفريقيا وهناك رأت الولايات المتحدة أن مساحة السودان تضارع مساحة أوروبا، فأعلنت وجوب التقسيم، وكعادة الولايات المتحدة تبدأ بالحملات الإعلامية أو القصف المبكر بالحديث عن فظائع ومذابح يجب إيقافها وتناشد الضمير العالمي التحرك لإنقاذ الضعفاء دون أن تذكر أحدا بتاريخها القميء في إزالة شعب من الخريطة ومن الحياة أو استعباد ملايين السود لبناء اقتصادها، فهي أم الحرية والحقوق والعدالة.
والمتابع باختصار لكل ما حدث ويحدث في السودان يرى الأصابع الأمريكية، بل والوجه الأمريكي القبيح في كامل صورته، وهو:
أولا: يضغط على الشمال إلى حد المطالبة بمحاكمة رئيسه، بل وابتداع محكمة هزلية لهذا الهدف.
ثانيا: اتهام العرب بالعدوان على الأفارقة في الجنوب ودارفور مع أن 90 في المائة من سكان دارفور من العرب، وأن نصف الجنوبيين في السودان يعملون في الشمال ويتعلمون هناك.
ثالثا: حصار السودان عالميا وفرض عقوبات تنفذها هي وجيش توابعها من دول فقدت الضمير، وهرعت وراء فتات المصالح.
رابعا: مساومة الصين والضغط عليها لتبتعد عن آبار البترول التي اجتذبت اللص سام إلى السودان، كما اجتذبته لسرقة بترول العراق وإلى تطويق بحر قزوين من أفغانستان، ومناصبة إيران العداء لأنها شوكة في حلقها تحول دون اكتمال الهيمنة.
ومن فضل الله أن السلاح الأمريكي الأقوى وهو الدعاية ولا نقول الإعلام هو خير ما يكشف مخططاتها، ورغم أن حملاتها الدعائية العدوانية والناعمة تمضي في يسر وسهولة، إلا أنها تفضح الكثير وتشي بعديد من المخططات. فقد صرح جون كيري رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي بتشديد العقوبات على السودان إذا عرقل تنظيم الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب والمقرر في التاسع من كانون الثاني (يناير) عام 2011، وقال الرجل «أريد أن أكون واضحا نريد أن تحترم الحكومة قرار الجنوب». الرسالة واضحة، لقد اتخذ قرار الانفصال، بل حسم أمر عقود نفط 80 في المائة من حقول السودان. وقال صراحة إذا اتجه الفريقان الاتجاه الخاطئ (أي حاولا الإبقاء على سودان متحد)، فستكون أمامنا عدة خيارات على رأسها تشديد العقوبات على السودان، ولا ينبغي أن ننسى الضغوط الثقيلة على حلفاء وأشقاء وجيران السودان بمعاداة السودان أو على الأقل بتجنب تقديم أي نوع له من الدعم وهو يتلقى هذه الضربات الهائلة. وتطالب حكومة البشير بحسم خمس مناطق على رأسها منطقة أبيي الغنية بالنفط وهي شمالية 100 في المائة وترسيم الحدود النهائية، ولكن أقطاب المؤامرة لديهم أجندة نهائية لا تقبل التدخل، بل إن كيري قال بأعلى صوته إن جنوب السودان سيصوت لمصلحة الانفصال وأضاف الرجل أن 80 في المائة من النفط لدى الجنوب، وهو بذلك يُذكِر السودان بحجم الصفقة التي يزمع سرقتها، وتسويقها عبر ميناء كيني تموله أطراف عربية وليس أمريكا صاحبة المصلحة الأولى في النفط.
والجدير بالذكر أن وسائل إعلامية أمريكية مختلفة تتحدث وعلى امتداد العقدين الماضيين أن خريطة إفريقيا يجب أن تتغير، فانفصلت إريتريا عن إثيوبيا لتنتج دولتين ضعيفتين تلهثان وراء إسرائيل لتلعب دورها في المرحلة القادمة، كما تتحدث هذه الوسائل عن عظم مساحات السودان والكونغو الديمقراطية (المسرح القادم للتقسيم) والجزائر وليبيا ثم المغرب ومصر. وقالت هذه المصادر إن إنجلترا كانت قد وسعت مساحة السودان لتنعم بها وحدها، وكذلك فرنسا في الجزائر وبلجيكا في الكونغو الذي أكل أراضي رواندا وبوروندي. وقصارى القول إن هذه الدول النائمة في انتظار أكلها كما أُكل الثور الأبيض في القصة الشهيرة. وما على الولايات المتحدة إلا فبركة الأسباب التي تضخمها وتعظمها وسائل إعلامها المغطاة صهيونيا، ثم تضع أجندة عملية وتقوم بتجنيد حلفاء من جيوش مختلفة، وقد يكتفى بالتخويف كما حدث في إريتريا وإثيوبيا والسودان، أما في الصومال فهناك عشر دول لأن الورقة الأمريكية هناك هي ترك الفقر ينهش هذا البلد الشجاع حتى تتبلور عدة دويلات تسيطر وتطل على القرن الإفريقي.
ونقرأ تصريحات لوزراء خارجية دول الجوار مثل مصر وغيرها، ولا تخرج عن أهمية الالتزام بالتهدئة لتنفيذ استحقاقات اتفاق السلام الشامل، ولأول مرة في تاريخ السودان يغيب الدور المصري تماما. ولا توجد قوى مضادة للضغط الأمريكي لتطالب بإكمال ترسيم الحدود أو تقسيم المناطق أو مشاكل الديون والهوية وتقسيم البترول مما يعني أن جميع الأمور سيُعهد بها للساحر الأمريكي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي