فقدان الذاكرة
يبدو أن البشرية مولعة بالتكرار والترديد وإلا ما الذي يمكن أن يفسر هذا الكم الهائل من المطبوعات الورقية ومحطات البث السمعية والبصرية. كما أن التمازج بين السمعي والبصري عادة ما يؤدي إلى إحساس بعدم الاكتفاء. فالناس لا تكتفي بقراءة الأخبار في الصحف أو مواقع الإنترنت بل لا يكتمل رضاهم دون تقليب المحطات والإذاعات لتأكيد الخبر أو سماع تفاصيل أكثر.
ويبدو أن الإفراط في الوسائل السمعية والبصرية والمطبوعة بات يقلل من مستويات التركيز والأهمية لكل الموضوعات المتاحة للنشر والعرض, فيكفي لأن تلغي خبرا أن تلحقه بسلسلة من الأخبار والموضوعات. ويحق لنا أن نتساءل عن مصير الذاكرة الإنسانية التي يتم حفظها حاليا ضمن جدران الحاسوب.
وتاريخيا استطاعت المجتمعات الإنسانية, عبر قرون من الزمن أن تمرر آثار التجارب الماضية عبر النقل الشفهي. ثم ظهرت الكتابة ومن ثم السينما والتلفزيون. وأخيرا الإنترنت الظاهرة الأبرز في القرن العشرين. فصحيح أن هذا الجهاز يمكننا من استدعاء المعلومات بكل الأحجام وفي أي وقت. بيد أننا عاجزون عن تمييز الصحيح من الخاطئ في تلك المعلومات. كما أن خطورة المعلومات على الإنترنت تحجم التفكير وتوجهه حسب رغبات الأشخاص الذين قاموا بإدخال معلوماتهم وأفكارهم. وهنا قد لا نستغرب السرعة التي يشتهر بها أشخاص دون غيرهم وبغض النظر عن الإنجازات التي حققوها بسبب التكرار في ذكر أسماؤهم. ومرده في الدرجة الأولى إلى أسلوب الاستسهال الذي يدمنه كثير من الناس عند تصفح الشبكة العنكبوتية دون أن يتعبوا عقولهم بالبحث والاستقصاء, باعتبار أن هذا الجهاز لا يمتلك كل الإجابات. وأكثر الأمثلة تكرارا في هذا الإطار المراجعات التي تنشر حول الكتب، حيث نجد تكرارا للاقتباسات والتعليقات نفسها التي وردت في أول تعليق على الكتاب وتتراكم مئات التعليقات والكتابات التي لا تضيف كثيرا وتبقى وجهات النظر محصورة ضمن زاوية محدودة يرسم ملامحها الشخص الأول الذي بادر بالكتابة.
أيضا هناك إشكالية السرعة التي تستدعى بها المعلومات, وهذه السرعة قد تعمل على إضعاف الذاكرة خاصة بالنسبة لأجيال الشباب, كما يحدث في علاقتنا مع الآلة الحاسبة التي أنستنا الجداول الحسابية. الخطورة في الأمر تكمن أن وفرة المعلومات في الحاضر لا تشجع على التفكير في الماضي خصوصا للعقول الفتية. ولن تصب تلك الغزارة في المعلومات في مصلحة ذاكرتنا بل ستجعلها محدودة وقصيرة الأمد. وقد تكون ثقافات وعادات كثير من الشعوب مهددة بالانقراض إذا لم يتم التعامل بحذر مع العولمة الإنترنتية.