رحلة المؤمن مع القضاء والقدر
نعيش حياة تتلاطمها أمواج الحياة العاتية، في رحلة من العمل والأمل، لا تخلو من السعادة والحزن والألم، نكابد فيها عناءها ونصارع فيها أحلامنا وطموحاتنا وآمالنا وآلامنا، ولكن في زحمة هذه الحياة الدنيا ومشاغلها وصراعاتها وقلقها يغيب عنا ركن أساسي من أركان الإيمان ألا وهو الإيمان بالقضاء والقدر.
الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان, والقدر هو تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته، وهو ما سبق به العلم وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد, والإيمان به هو أن تؤمن بأن الله جل جلاله قدر مقادير الخلائق وما يكون من الحوادث قبل أن تكون, وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة على صفات مخصوصة، وكتبها بكل تفاصيلها ودقائقها، وهي كائنة لا محالة على التفصيل والدقة، كما شاء سبحانه وتعالى.
إن القدر غيب مبناه التسليم، قال سبحانه (وكان أمر الله قدرا مقدورا)، وقال جل علاه (إنا كل شيء خلقناه بقدر)، ويقول المصطفى عليه الصلاة والسلام (وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)، وقال في ذلك ابن عباس رضي الله عنهما: (كل شيء بقدر، حتى وضعك يدك على خدك)، ولهذا فإن الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون في الوجود شيء إلا بعلمه ومشيئته وقدرته, لا يمتنع عليه شيء, بل هو قادر على كل شيء ويعلم سبحانه وتعالى ما كان وما يكون.
وقد قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقها, قدر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم، وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة، والعباد مأمورون بما أمرهم الله به, منهيون عما نهاهم عنه، يقول سبحانه وتعالى في ذلك (وخلق كل شيء فقدره تقديرا).
إن الإيمان بالقضاء والقدر يقوم على أربعة أركان مرتبطة ببعضها بعضا، لا يتم الإيمان إلا بتحقيقها وهي العلم والكتابة، والمشيئة والخلق، فالعلم: هو أن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء جملة وتفصيلا، أولا وأبدا، فيعلم الموجود والمعدوم والممكن والمستحيل، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة) (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).
الثاني: مما يشتمل عليه الإيمان بالقدر هو الكتابة، وهي الإيمان بأن الله كتب ما سبق به علمه من مقادير الخلائق إلى يوم القيامة، فكل ما كان وما هو كائن مكتوب في اللوح المحفوظ في أم الكتاب، قال سبحانه وتعالى (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير).
الثالث: مما يشتمل عليه الإيمان بالقدر هو المشيئة وهي الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حركة ولا سكون ولا هداية ولا إخلال إلا بمشيئته جل وعلا.
الركن الرابع: هو الخلق, وذلك يقتضي الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله بذواتها وصفاتها وحركاتها، وبأن كل من سوى الله فهو مخلوق، موجود من العدم قال ـــ عز وجل ـــ في ذلك (الله خالق كل شيء).
إن رحلة المؤمن مع القضاء والقدر لها ثمرات تعود عليه بالنفع العاجل والآجل، فأول ذلك أن المؤمن يؤدي عبادة الله تعالى بإيمانه بالقضاء والقدر وبالإذعان لله والتسليم له، كما أن الإيمان بالقضاء والقدر باعث على الإخلاص، فإذا علم العبد أن كل شيء بقدر الله وأن الملك ملكه والخلق خلقه وكل شيء مقاليده بيده سبحانه وتعالى، وأن الأمور لا تنال إلا بتقديره وأننا لا نملك شيئا لنغير قضاء الله وقدره إلا بالرضا والاستسلام لمشيئته، فهذا يزيدنا إيمانا وقبولا للمصائب والأحزان، يقول جل في علاه (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه)، يقول علقمة في ذلك (هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من قبل الله فيسلم ويرضى)، ومن رضي عن الله رضي الله عنه، والرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين وقرة عيون المشتاقين، إنه لا خروج لنا عما قدر الله لنا، فلو رضينا باختيار الله وأصابنا القدر ونحن راضون بقضاء الله وقدره لحقق لنا سكون القلب وطمأنينة النفس وراحة البال وبرد اليقين, والمؤمن بقضاء الله وقدره يستقبل المصائب والآلام بنفس رضية ومطمئنة وسكينة عجيبة، لا تحتاج معها النفس إلى المسكنات والعقاقير الطبية والأعشاب الطبيعية ولا زيارة الدجالين والمشعوذين والسحرة وغيرهم.
إننا مطالبون من خلال الإيمان بالقضاء والقدر بالقبول بما يراه الله لنا من خير وشر، يقول سبحانه وتعالى (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، والمؤمن هو من يفوض أمره إلى من يعلم عواقب الأمور.
دعونا نبحر مع هذه الرحلة الدنيوية مع القضاء والقدر، ونعيش الرضاء بذلك، ونعلم أن الله سبحانه وتعالى أحن علينا وأرحم بنا من أقرب الناس إلينا، وأنه ما خلق لنا ما نعيشه من أفراح ومصائب إلا لحكمة يعلمها، ولعل حرصنا على تربية أبنائنا واضطرارنا إلى ضربهم أحيانا من أجل تأديبهم وتحقيق الخير لهم خير دليل على أن المصائب لا تأتي للإنسان المؤمن بقضاء الله وقدره إلا من أجل الخير له، أسأل الله سبحانه وتعالى في هذا اليوم المبارك العظيم أن يجعلنا ممن يؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره، وأن يرزقنا إيمانا مع قناعة ورزقا مع راحة بال .. تقبل الله من الجميع حجهم وصيامهم ودعاءهم وصالح أعمالهم.
وقفة تأمل:
كل عام وأنتم بخير .. وعيدكم مبارك.