ثورة ضد الدولار!

على الرغم من التحذير الذي أطلقه وزراء مالية مجموعة العشرين الشهر الماضي، من خطورة السعي لتحقيق مكاسب تجارية عن طريق خفض قيمة العملة، إلا أن تحذيرهم لم يلق حتى الآن - كما يبدو - استجابة عملية، ويظهر أن حرب عملات قد استعرت. فهناك ثورة ضد الدولار، وتخوف عالمي واسع من نتائج سياسة التوسع النقدي الضخمة التي يتبناها بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي المفضية لدولار ضعيف. فقد أثارت هذه السياسة مخاوف كبيرة في أوروبا واليابان والصين، وفي الأسواق الناشئة في الشرق وفي أمريكا الجنوبية. وبدأت مصارف مركزية عديدة حول العالم الوقوف على أهبة الاستعداد للأخذ بسياسات مضادة خلال الأشهر المقبلة. إما بالتدخل مباشرة في سوق العملات أو بفرض ضوابط على رأس المال؛ بهدف منع تصاعد أسعار الصرف. فالصين واصلت المحافظة على سعر عملتها المنخفض، بينما تدخلت تايوان لوقف ارتفاع عملتها، في حين أعلن محافظ البنك المركزي الكوري أن بلاده تدرس فرض ضوابط على حركة رأس المال في إطار خطتها لوقف سيل الدولارات المتدفقة من الولايات المتحدة إلى آسيا. وفي أمريكا الجنوبية فرضت البرازيل ضريبة بنسبة 2 في المائة على تدفق الدولار إلى سوق السندات والأسهم، ولا سيما بعد ارتفاع سعر الريال البرازيلي بنسبة 35 في المائة مقابل الدولار هذا العام، والعجز التي سجلته البرازيل في حسابها الجاري.
ومن الواضح أن السياسة النقدية الأمريكية تسبب متاعب ومخاطر اقتصادية جمة لنحو 40 بلدا تربط عملتها بالدولار، ومن ضمنها بالطبع بلدنا. فالصين على سبيل المثال أخذت في تنويع احتياطياتها بعيدا عن الأصول الدولارية الأمريكية، حيث يطالب حشد من المسؤولين والمستشارين الصينيين بتحويل احتياطات الصين إلى الذهب أو إلى أشكال من الأصول الحافظة للقيمة كالنفط. وقد بدأت الصين في شراء الين الياباني والون الكوري الجنوبي، مع حفاظها في الوقت نفسه على ربط عملتها بالدولار. بيد أن هذا الإجراء ألحق ضررا بالقدرة التنافسية لهاتين العملتين. وردا على ذلك، بدأت اليابان في التدخل لإضعاف عملتها، وقد تلحقها كوريا الجنوبية. لكن من غير الممكن أن تصبح العملات جميعها ضعيفة في وقت واحد. فإذا كانت إحداها أضعف فمن المنطقي أن تكون عملة أخرى أقوى. وعلى نحو مماثل لا تستطيع كل البلدان أن تحسن من صافي صادراتها في الوقت نفسه، فالمجموع العالمي للصادرات والواردات يجب أن يساوي صفرا بحكم التعريف. والأمر نفسه ينطبق على حرب خفض قيمة العملات، فالمكسب الذي تحققه دولة ما هو في واقع الأمر خسارة لدولة أخرى، إنها علاقات ذات مجموع صفري.
وعلى الرغم من أن مدير عام صندوق النقد الدولي دومينيك ستراوس أكد أن النظام المالي القائم على الدولار ما زال قائما ولم يتجاوزه الزمن بعد، إلا أن النظام المالي العالمي يشهد اضطرابا واضحا. ويعتقد عدد من المراقبين أن ضعف الاقتصاد الأمريكي وحرب العملات تنذر باندثار النظام الدولي القائم على أساس الدولار، وظهور نظام غير مستقر متعدد العملات يستمر لفترة نرى فيه دورا للعملة الأوروبية والصينية واليابانية، وربما تمخضت محاولات الإصلاح عن معيار هجيني من الذهب، أو ترتيب آخر في شكل وحدة نقدية عالمية، مثل (البانكور) التي اقترحها الاقتصادي الإنجليزي كينز في أربعينيات القرن الماضي.
فأين نحن من كل هذا؟ هل سنكتفي بالوقوف متفرجين؟ إننا نعاني تدهورا مستمرا في قيمة الريال منذ نحو عقد من الزمان، وبسبب ارتباط عملتنا بالدولار أصبحنا مضطرين لمجاراة اتجاهات السياسة النقدية لبنك الاحتياط الأمريكي غير المناسبة لأحوالنا الاقتصادية. فسياسة تخفيض سعر الفائدة الأمريكية فرض على مؤسسة النقد تبني ذات الاتجاه، في الوقت الذي كان التضخم يستدعي سياسة معاكسة. كما أن انخفاض قيمة الدولار أدى لتدني قيمة الريال وكلاهما أججا من حدة التضخم داخليا. وقد سيقت حينها حجج عديدة لتبرير هذا الارتباط، على الرغم من آثاره السلبية التضخمية على اقتصادنا، وعلى القيمة الحقيقية لفوائضنا المستثمرة في أصول دولارية! وكانت خلاصة هذه التبريرات أن هذا الارتباط يخدم اقتصادنا، وأنه أفضل بديل متاح لنا في الوقت الراهن.
وكان رأيي أنه إذا كان الارتباط بالدولار وكذلك ثبات سعر صرف عملتنا به هو أمر لا مفر منه كما يرى البعض، فيجب ألا يتحمل المواطن وحده ثمن هذه السياسة. ذلك أن تدهور القوة الشرائية لمتوسط الدخل الفردي الحقيقي مع كل انخفاض في قيمة الريال المرتبط بالدولار المتهاوي، يقتضي أن تشترك الخزانة العامة في تحمل نصيبها من هذا الثمن. خاصة أن الخزانة العامة تعوض خسائر ارتباط الريال بالدولار المتدهور عن طريق ما تجنيه من ارتفاع في سعر برميل النفط مع كل انخفاض في قيمة الدولار.
الدولار المتراجع والتضخم المتوقع هما خطران ماثلان يهددان مستويات معيشة السواد الأعظم من الناس. ونحن كغيرنا في حاجة لإجراءات اقتصادية خارجية معاكسة لمواجهة هذا الوضع، وإجراءات داخلية للتخفيف من الآثار السلبية المتوقعة فمتى نرى هذه الإجراءات؟ وهل ننتظر حتى تحل كارثة لكي نقوم بإجراءات مناسبة تحمي عملتنا وتصون اقتصادنا؟ إننا في حاجة إلى تطمينات وتفسيرات مقنعة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي