المجتمع بين الروابط والضوابط
هناك من ينظر إلى المجتمع على أنه كيان حي، وهو فعلا كيان حي، فهو يمرض كما تمرض الكائنات الحية، وبالتالي فلا بد من معالجة المجتمع في حالة مرضه، وإلا قد يتحول هذا المرض إلى مرض مزمن أو عاهة مستديمة قد تعقد بذلك المجتمع عن ممارسة حياته بالشكل الطبيعي. ولكن المشكلة أن تشخيص الأمراض الاجتماعية ليس بالعمل السهل، فقد يحس أفراد المجتمع بمرض مجتمعهم، لكنهم في الغالب قد لا ينجحون في تحديد نوع هذا المرض الذي يعانيه مجتمعهم. والمرض عموما يعبر عن نفسه من خلال مجموعة من الأعراض، وكما هو الحال مع الأمراض البدنية فإن الأمراض الاجتماعية تشترك فيما بينها في الأعراض التي تظهرها، وبذلك قد يقع المجتمع في فخ التشخيص الخاطئ للمرض، هذا إذا افترضنا أن هناك جدية اجتماعية في معالجة المرض وليس فقط الاكتفاء بمداواة ومعالجة الأعراض. نعم أكثر ما تبتلى به المجتمعات هو الانشغال بالأعراض والغفلة عن الأمراض الحقيقة؛ لتكون النتيجة بقاء المرض وربما استفحاله وحتى ظهور أمراض جديدة؛ مما يزيد من معاناة المجتمع ويصعّب من فرص معالجته.
مجتمعاتنا العربية والإسلامية هي فعلا في الغالب مجتمعات مريضة ومريضة جدا ومرضها قديم، والدليل هو ما وصلت إليه هذه المجتمعات من تخلف في مختلف أمور حياتها، ففي كل تقرير أممي تجدنا في ذيل القائمة. في القراءة نحن لا نقرأ؛ لأننا الأعلى في العالم في عدد الأميين، ومن يقرأ منا فإنه بالكاد ينهي كتابا أو نصف كتاب في السنة، في البحث والإنتاج العلمي وهو ميدان المنافسة بين الأمم في الوقت الحاضر، تجدنا أشد الأمم بخلا في الإنفاق على النشاط العلمي والبحثي، فغيرنا يخصص 3 وربما 4 في المائة من دخلهم القومي للصرف على العلماء والباحثين، ونحن لا نخصص إلا القليل والقليل جدا، ويا ليت يبقى هذا القليل في مكانه؛ لأن مكينة الفساد والترهل الإداري لا ترحم حتى هذا القليل من أن يصل إلى مبتغاه ومكانه الطبيعي. لم ننجح أن نتحول إلى مجتمعات صناعية وفشلنا في المحافظة على قدراتنا الزراعية فصرنا مرتهنين للغير ليس فقط في المنتجات الصناعية، بل صرنا نستورد معظم طعامنا من الآخرين. تجد العالم اليوم مشغولا بموضوع المياه حتى إن البعض بات يخطط ويستعد للدخول في حروب وصراعات من أجل المياه، ونحن لا نحرك ساكنا وكأن الأمر لا يعنينا. أما عندما يأتي موضوع الفساد والفقر والبطالة والتدهور البيئي وانتهاك حقوق الإنسان فالأرقام أكثر من مخزية، فالعالم العربي وحده يهدر من ماله أكثر من 300 مليار دولار بسبب الفساد سنويا، ولنا أن نتصور كم سيكون لهذه الأموال من أثر تنموي لو كانت الأمانة فعلا حاضرة عندنا، وعندما يكون الفساد بهذا الحجم الكبير فمن الطبيعي أن يجر معه الفقر والبطالة والمرض؛ ولكي يحمي الفساد نفسه فلا بد من أن يكون هناك استبداد وظلم وتعدٍ على حقوق الإنسان.
كانت ولا زالت هناك محاولات لإصلاح هذا الوضع المزري الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ولسنا في حاجة إلى دراسة أو تحقيق لمعرفة نتائج هذه المحاولات فنحن نزداد تخلفا، البعض يتهم الآخرين ويحمّلهم مسؤولية التآمر علينا، والبعض الآخر فقد الأمل في إصلاحنا وصار يدعو من له عقل وفكر عندنا إلى أن يهجرنا ليعيش عند من يستحقون علمه وفكره، وآخرون ينهالون علينا صباحا ومساء بالخطب والمواعظ يتهمون بها تديننا وأخلاقنا ويجعلون منها السبب في تردي أحوالنا، وغاب عنهم أن تديننا وأخلاقنا هي الأخرى كانت ضحايا لتأخرنا وتخلفنا، وليس أدل على ذلك من الصراع المذهبي والطائفي الذي حوَّلنا إلى أعداء وصيَّر من اختلافاتنا أمورا مقدسة نتقاتل عليها ولا نسمح لأحد أن يقترب منها أو أن يمسّها. وهناك قلة من المفكرين ممن اهتموا بتشخيص الداء في تخلفنا وأشاروا بأصابعهم وبكل ثقة إلى ثقافتنا المريضة، فالثقافة المريضة هي الجهاز المناعي الذي يحمي المجتمع من السقوط في المرض، فكيف لا نمرض وثقافتنا صارت لا تحمينا؛ لكثرة ما فيها من رؤى وقيم مضادة للحياة، بل البعض صار يصف حالنا بأننا مجتمعات عارية ثقافيا، وبالتالي صار يهرب منا كل ما هو إيجابي ويفد علينا كل ما هو سلبي. فعلينا أول ما نبدأ به إصلاح ثقافتنا، وهذا الأمر مع الأسف غير متفقين عليه، فهناك من يدعو إلى إصلاح سياسي أو اقتصادي أو ديني، لكن لا تجد من يدعو إلى الإصلاح الثقافي والأمل معقود على القمة العربية الثقافية المقبلة؛ لإثارة اهتمامنا بهذا الموضوع، بشرط ألا نحولها إلى قمة خطابية فقط.
ولو أردنا أن نأخذ قيمة ثقافية سلبية أسهمت وبشكل كبير في تخلف مجتمعاتنا، فإننا سنجد أن ثقافتنا تدفع بنا إلى الركون إلى الروابط أكثر بكثير من التمسك بالضوابط في تشكيل مجتمعنا وبناء علاقاتنا الجمعية. فنحن وبسبب ثقافتنا ننزع إلى إنتاج روابط نعيش من خلالها العلاقة مع بعضنا أكثر من أن نهتم بتوليد وبشكل جمعي ضوابط نؤطر بها حياتنا وعلاقاتنا وتفاعلنا مع قضايانا. نحن لا نتكلم عن سلبية مطلقة للروابط، لكننا نرى خطورة في تغليب الروابط على الضوابط؛ لأن المجتمع عندما يعيش هذه الحالة فسيكون بيئة مناسبة للتفتت والصراع وتضارب الإيرادات، والمجتمع الذي لا يعيش الانسجام بالحد المطلوب لا ننتظر منه نتائج إيجابية وأفعالا مثمرة.
هناك صور عدة تبين كيف يحدث مثل هذا الاختلال في ثقافة المجتمع، وذلك عندما تتقدم الروابط وتتأخر الضوابط، نذكر بعضها وبإيجاز، آملين ألا يخل هذا الإيجاز بالمطلوب من الحديث.
1- إن المواطنة هي من أهم الضوابط الاجتماعية التي تجعل من المجتمع وحدة متجانسة، وإن اختل هذا الضابط فإن المجتمع سيعيش التشرذم وعدم القدرة على استثمار ما عنده من موارد وإمكانات. فإن المواطنة عندما تزاحمها وتضغط عليها وتحاصرها الروابط القبلية والمناطقية والمذهبية فإن المجتمع سيعاني مشكلة الانتماء وكيف يراد لمجتمع أن ينهض وأن يتطور وأفراده لا يشعرون بانتمائهم إلى هذا المجتمع. فكل من درس مجتمعاتنا من غيرنا أحس بعمق هذه المشكلة، وهي غياب ضابط المواطنة وأثر هذا الغياب في خلق البيئة الفوضوية غير المنتجة في مجتمعاتنا.
2- مجتمعاتنا، ومع الأسف، غارقة في التقليدية، وهي تفتخر بأنها تحتكم للأعراف والتقاليد والممارسات المألوفة أكثر مما هي تحتكم وتنضبط بميزان الحقوق. فمهما كان عند المجتمع من أعراف جيدة وتقاليد وممارسات حسنة إلا أنه يجب ألا تكون الميزان المعتمد في صياغة وتشكيل بنية المجتمع وعلاقاته الداخلية. فالمجتمع غير المنضبط بميزان الحقوق هو مجتمع ظالم لنفسه، وعندما يكون المجتمع ضحية لنفسه فعلينا ألا ننتظر من هذا المجتمع أن يثق بنفسه وأن تنتظم أموره بالشكل الذي يستطيع أن يحقق إنجازا ما يتطلع إليه من أهداف.
3- عندما يفشل المجتمع في عدم شخصنة علاقاته البينية في الشأن العام فإن الضابط التنظيمي يختل. إن الفارق بين المجتمعات المتحضرة وغيرها هو في قوة التنظيم، وأكثر ما يضعف التنظيم في المجتمع هو الالتزام بالروابط الشخصية على حساب النظام، وكلما اتسعت مساحة العلاقات الشخصية في مزاحمتها للنظام اقترب هذا المجتمع أكثر وأكثر من الفوضى والفساد.
أخيرا لا بد من أن نشير مرة أخرى إلى أن الروابط في حد ذاتها هي ليست سلبية بالمطلق وكل مجتمع في حاجة إليها بشرط ألا تحل محل الضوابط؛ لأن الضوابط مثل المواطنة والحقوق والضابط التنظيمي وغيرها هي التي تضبط من حركة المجتمع وتضمن بقاء هذه الحركة في المسار الذي يأخذ بالمجتمع إلى حيث ما يريد من أهداف وغايات، وإما عندما تتقدم الروابط على حساب الضوابط فإن حركة المجتمع تختل ويكون المجتمع في وضع غير متوازن، وبالتالي يتعرض هذا المجتمع للسقوط في المشاكل والأزمات والتي في النهاية تجعل منه مجتمعا مريضا.