حول ماهية المُواجَهَة وبعض أنواعها
المواجهة عملية اجتماعية مُكتسبَة، تتأثر بعددٍ من الغرائز الإنسانية، كغريزة النجاة، وغريزة السيطرة.. يعرّفها الدكتور إبراهيم ناصر بأنها: “ما لدى الإنسان من استعدادات فطرية، تدفعه إلى القيام بسلوك خاص، إذا ما أدرك أنه في موقف خاص، أو مجال معين يتطلب سلوكاً ما للخروج مما هو فيه”، فهي، تعني الإقدام والمجابهة، للحال التي تسبب القلق والخوف للفرد، لإنهائها والتخلص من ضغطها، من خلال مجابهة الآخرين بالقول أو الفعل، أو الاثنين معاً.
ويكتسب الإنسان سلوك المواجهة عن طريق التربية، ابتداءً من الأسرة، ومن ثم بقية مؤسسات المجتمع، التي تعمل على تطبيع سلوكه ونمط تصرفاته، لمساعدته على التكيف مع متغيرات البيئة، والظروف الحياتية، والعلاقات الاجتماعية، وبالتالي تختلف المواجهة باختلاف الأفراد، واختلاف الخلفية الثقافية والاجتماعية والتربوية، والحياة الأسرية التي تربى المُواجِه في ظلالها، وترتبط أيضاً بحسابات المصلحة أو عدم المصلحة من المواجهة، كذلك، تختلف حسب اختلاف المُواجِه والمُوَاجَه والظروف التي دعت إلى المواجهة، فقد تكون مواجهة بنَّاءة، أو مواجهة سلبية، غير أن مواجهة النفس بأخطائها هي أصعب أنواع المواجهة، لما تتطلبه من صراحة وحزم وإرادة.
فرجل القانون، مثلاً، سوف تنصب حساباته، في مواجهته، على البعد عن التورط في أية أخطاء قانونية، قد تعرضه للعقاب أو تصبح سلاحاً في يد خصمه. أما العسكري، فسوف يفكر خلال المواجهة بالشرف العسكري، فتأخذ مواجهته طابع تربيته العسكرية، فيميل إلى الهجوم كوسيلة للدفاع. أما التاجر حين يرى ضرورة المواجهة، فسوف يركز على مصالحه من ربح وخسارة، وستتأثر مواجهته سلباً أو إيجاباً بتربيته الاجتماعية ومؤهلاته، وتاريخ عائلته في السوق ونمطهم. أما إذا كان موظفاً، فسيأخذ في الحسبان، عند المواجهة، تأثيرها على رزقه ومصيره في العمل.. وكثيراً ما تتحول مواجهة الموظف إلى نكوص وهروب، حتى لو كان على حق، لأنه سيفكر في النتائج وهو يسعى لتوظيف الماضي والحاضر لخدمة المستقبل.
وهكذا، تختلف أنماط المواجهة، وأسبابها، ونتائجها، باختلاف ما للفرد من مصلحة، أو ضرر، وتؤثر هنا المعطيات والعوامل الوراثية، التي مُزجت بعوامل اجتماعية ودينية ومادية، وكذلك خبرات الحياة، في اتخاذ قرار المواجهة.
إلا أن المواجهة، كنمط سلوكي، تتأثر بالضبط الاجتماعي، أي القيود التي تضعها الجماعة لأفرادها، وأهمهما: الاستحسان والاستهجان، فإذا استحسن المجتمع نوعاً معيناً من السلوك، فمعنى هذا أنه يوافق عليه، أما إذا استهجن المجتمع نوعاً معيناً من السلوك، فمعنى هذا أنه لا يوافق عليه، فيصبح المُواجِه مخيّراً بين هذين القيدين، ومسؤولاً، سلباً أو إيجاباً، تجاه المجتمع، عن نتائج المواجهة.
لا يمكن الجزم بصورة نظرية، هل المواجهة عملية اجتماعية مجمعة، مثل التعاون والتوافق، أم هي عملية اجتماعية مفكِكَة، تؤدي إلى التنافر والانحلال، مثل التنافس والصراع، إلا في ضوء الظروف التي تظهر فيها، والنتائج الاجتماعية التي تنجم عنها، فالظروف والنتائج هما الفيصل في تحديد نمط المواجهة ونوعها بين العمليات الاجتماعية، خيّرة مجمعة، أم شريرة مفككة. لأن المواجهة في نهاية الأمر، هي قدرة الفرد على الاندماج في المجتمع بصورة إيجابية، والتفاعل مع الظروف الاجتماعية المتناقضة، بشكل يكفل للفرد مواجهة المشاكل الاجتماعية، بما يناسبها من الإقدام والمكاشفة والمواجهة، وملاءمة النفس للموقف، وتغيير خصائص السلوك بما يلائم تغير البيئة والظروف معاً.
وفي الإسلام منهج مفصل في مسألة المواجهة وأنواعها، يكفي أن نذكر أهمها، ألا وهي “شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، كمواجهة تقوم بها الأمة، ممثلة في أهل الحسبة العالمين بمقتضياتها، في سعيهم لتغليب المعروف على المنكر، والحق على الباطل، في كل مناحي الحياة ومستوياتها في المجتمع الإسلامي.
إلا أن الإسلام أطر هذه المواجهة بالحُسنى واللين والتوجيه، قال تعالى: لنبييه موسى وهارون، وهما يدعوان فرعون للإسلام:(فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه: 44) أي ادعواه إلى الإسلام بالرفق واللين (ابن كثير)، هذا للكافر، فما بالك بدعوة المسلم؟ وقد قال – عز وجل – لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك( (آل عمران: 159).
فطبيعة الإنسان لا تقبل إلا ما يلائم فطرتها، في مسيرة المواجهة والإقناع، من لين الكلام وحُسن الخُلق.