أزهار للعلف

يثير الإعجاب هذا الاهتمام الكبير بمشكلات الفقر الذي تبديه كثير من الدول الغنية تجاه القارة الإفريقية أو بقاع أخرى من العالم. لكن يبدو أن هناك وجها آخر من المصالح، يختبئ لتلك المساعدات حتى تكون بذلك السخاء. فأوروبا مثلا تسهم بأكثر من 50 في المائة من مسحوق الحليب خالي الدسم في صندوق تبرعاتها لجياع العالم، الذين لا يعرف غالبيتهم كيفية إذابته في الماء، هذا إن كانوا أصلا يمتلكون الصحون والملاعق أو الماء الصالح للشرب.
الحكاية ببساطة، أن السوق الأوروبية المشتركة لديها صداع، من الفائض الكبير في ألبان مزارعها، بوجود لتر فائض من كل ستة لترات. تلك الكمية الزائدة، تفوق بمراحل حاجة سكان أوروبا مجتمعين. طبعا هذا الإنتاج الغزير مرده للوجبات الدسمة التي تمرر يوميا لمعدة الأبقار الأوروبية المدللة، باعتبار أن طعامها أو أعلافها تزرع خصيصا لها، في أماكن مختلفة من العالم المحتاج إلى الغذاء، بل وتحل حبوب العلف من القمح وفول الصويا مكان مزروعات سكان البلاد أصحاب الأراضي.
ورغم المساحات المتزايدة المخصصة للزراعة من كل أنواع الحبوب تبقى تلك البلدان تعاني نقصا في سلعها الغذائية باعتبار أن ما تزرعه لا تستهلكه، بل يصدر من أجل خاطر جمع الدولارات.
إذاً مشروع المعونات والمساعدات الإنسانية لا علاقة له إلى حد كبير بأعمال الخير والبر، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمادة كاللبن سريعة العطب، والمعضلة الأكبر هي تحويل اللبن إلى منتجات يسهل تخزينها، أي إلى لبن وزبد منزوع الدسم يسهل بعدها تجفيفه وتحويله إلى مسحوق: والمشكلة الثانية هي إيجاد زبون لتلك المواد؛ لأنها سلع مكلفة بسبب الدعم الذي تقدمه الحكومات الأوروبية لمزارعيها لقاء منتجاتهم؛ ما يجعلها سلعا غالية لتسوق في المناطق خارج أوروبا. إذا الموضوع لم يتوقف عند ذلك الحد، وتحت شعار الأعمال الإنسانية، تم تزويد بلدان المجاعات بمصانع أوروبية للألبان؛ حتى تستطيع تحويل المسحوق إلى مواد قابلة للاستخدام الفوري، وبالطبع المصانع تتطلب تمويلا والتمويل الذي تقدمه مصارف عالمية أو حتى مؤسسات دولية لن يكون مجانا، بل تطوله سلسلة من الفوائد والاشتراطات.
في الإطار نفسه، وتحت شعار نقل خبرات الشركات الزراعية العالمية الكبرى، وتشجيع الزراعات التصديرية، يكون الحل عبر زراعة الأزهار. بالطبع الأزهار، لن تكون لإطعام البشر، بل للترفيه عنهم، خصوصا لمن يستطيع أن يدفع ثمنها. الشركات بررت اللجوء لنشر تلك الزراعات الراقية بأنها تلقى رواجا وسوقا مربحة في بلدان الثراء، حيث إن الهكتار الواحد من الأزهار يجني مكاسب تتجاوز بعشرات الأضعاف ما يجنيه هكتار القمح أو الشعير في بلدان مثل جواتيمالا والإكوادور. ومن السهل تخيل الإشكاليات التي تخلقها مثل تلك المنتجات عندما يلجأ المزارعون إلى تحويل أراضي القمح والذرة إلى بساتين للأزهار؛ لأن إيراداتها أعلى، النتيجة تطول طعام الإنسان وأعلاف الحيوانات. لكن لم لا يستفيد فلاحو العالم الثالث من خبرات زملائهم الأوروبيين الذين يضيفون مسحوق الحليب إلى طعام الأبقار بغرض تسمينها، ويدللون ماشيتهم بأعلاف من الأزهار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي