المشاكل تنتجها ثقافة خاصة بها

من الطبيعي أن تبتلى الأمم بمشاكل وتحديات, ومن المعقول أن تضعف بعض الأمم في بعض مراحل حياتها في مواجهة هذه المشاكل والتغلب على هذه التحديات، إلا أن الخطر الكبير هو أن تسمح هذه الأمم وهذه المجتمعات لهذه المشاكل بأن تنتج لها ثقافة تحتمي بها في مواجهة المجتمع لها وتستند إليها في إعادة إنتاج نفسها بعد كل ضربة تتلقاها في صراعها مع مكونات المجتمع. فمن الخطأ لأي مجتمع أن يعتقد أن بمقدوره التغلب على المشاكل والأزمات التي تحتمي بثقافة خاصة بها من غير أن يكون للثقافة حضور في هذه المواجهة, فعلى المجتمع أن يخنق ثقافة هذه المشكلة إن أراد فعلا التخلص منها. فالثقافة التي تحتمي بها المشكلة إن وجدت هي فعلا من تمد هذه المشكلة بمقومات الوجود والاستمرار، وبالتالي فلا معنى لمحاربة هذه المشكلة من دون أن تتم مواجهتها على صعيد الثقافة. وكما هو الحال في الطب, فإن أصعب المشاكل الصحية التي يواجهها الإنسان على الأقل في وقتنا الحاضر هي مرض السرطان، وتكمن صعوبة هذا المرض في قدرة الخلية السرطانية على التكاثر بسرعة على حساب الخلايا السليمة الأخرى، وبالتالي ما يحاوله الأطباء والباحثون من العلماء للقضاء على هذه الخلية السرطانية هو اكتشاف الوسط والمناخ الذي يحيط بهذه الخلية ويعطيها القدرة على هذا التكاثر. فتحول الخلية السليمة إلى خلية سرطانية هو أمر وارد في كل الأوقات، وعند الجسم ما يكفي من القدرة للقضاء على هذه الخلية المريضة، لكن الخطورة أن تستغل هذه الخلايا المريضة مكامن الضعف في جسم الإنسان فتنتج لها الوسط الذي سيسمح لها بالتكاثر وعندها يخسر الجسم معركته وتتحول هذه الخلية السرطانية إلى مرض فتاك. فالطب اليوم يكثف جهوده العلمية والبحثية لإيجاد طرق تقوي من مناعة الجسم ليمنع على هذه الخلايا إيجاد مثل هذا الوسط الذي يساعدها ويسمح لها بالتكاثر السريع.
ولعل أخطر الأزمات والتحديات التي تواجهها اليوم مجتمعاتنا الإسلامية هي هذه السهولة في اللجوء إلى العنف للتعبير عن خصوصياتهم، وبالأخص تحت مظلة الدين, فالعنف باسم الدين هو أكبر تحد تواجهه المجتمعات الإسلامية ولم تسلم منه حتى الأقليات المسلمة في دول العالم. فعلى المجتمع في تعامله مع مشكلة ممارسة العنف باسم الدين أن ينظر لهذه المشكلة لا في وضعها الراهن فحسب، بل عليه أيضا أن يتتبع مسار تبلورها حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن. فممارسة العنف من قبل البعض وجعل هذه الممارسة تكتسب مشروعية دينية لم تكن إلا حالة تضافرت على إنتاجها مكونات فكرية وثقافية، وبالتالي فنحن أمام حالة أو ظاهرة لها امتدادات فكرية وثقافية تمدها بعوامل البقاء والاستمرار. فمحاربة مثل هذا السلوك تتطلب محاصرة هذه العوامل، لكن الاشتباك مع الأفكار والمكونات الثقافية هو أصعب بكثير من الاشتباك مع من يقومون بممارسة العنف باسم هذه الأفكار. وقبل كل هذا على المجتمع أن يفحص ثقافته جيدا وأن يراجع قناعاته وأفكاره ليفرز تلك الأفكار والقناعات التي شكلت معابر لمثل هذا السلوك. فلظاهرة العنف ثلاثة أبواب رئيسة دخلت منها إلى مجتمعاتنا الإسلامية ولن تستطيع هذه المجتمعات أن تتخلص من هذه الظاهرة وأن تحفظ لدينها موقعه الطبيعي في نفوس الناس إلا بإغلاق هذه الأبواب, فأول هذه الأبواب ولعله أهمها في هذا الإطار هو باب الكراهية, والباب الثاني هو التطرف الفكري، والباب الثالث والأخير هو تغييب البعد الإنساني في عملية التدين على المستويين الفردي والجماعي, وفي النقاط التالية مناقشة مختصرة لهذه الأمور الثلاثة:
1- ثقافة الكراهية: لا يمكن لأي مجتمع أن يعيش الكراهية في علاقته مع بعضه ومع الآخرين ويستطيع أن يبقي نفسه محميا من الوقوع في دائرة العنف، ولعل أول ضحية لهذه الكراهية هو المجتمع نفسه. فالنفوس المحتقنة بثقافة الكراهية تستسلم بسهولة للعنف، حتى إن أرادت غير ذلك. فالكراهية قوة نفسية رهيبة إذا ما أحاطت بالإنسان إحالته إلى مخلوق عديم الرحمة، وهذا يفسر لنا ما نشاهده من تلك الصور البشعة والممارسات العنيفة في الكثير من المجتمعات الإسلامية ويوميا والتي لم يسلم منها أحد. فمحاربة العنف والعمل على محاصرته يتطلب أولا تجفيف المنابع الثقافية للكراهية, فالمجتمع الذي يسمح بأن يتلون خطابه الثقافي بالكراهية للآخر هو بذلك يوفر البيئة المناسبة لنمو العنف كظاهرة, ولا يهم أن تكون البداية في صور متواضعة وبسيطة لأن التغاضي عنها يعني السماح لها بالتوسع واكتساب القوة، وبعدها يكون من الصعب السيطرة عليها، وهذا ما يجب الالتفات إليه. فليس هناك مشكلة أن يعيش المجتمع التنوع والاختلاف، لكن من غير المسموح أن نغلف هذا الاختلاف بالكراهية. فالمشكلة التي تعانيها مجتمعاتنا الإسلامية هو اعتقاد البعض بأن التدين يتقبل الكراهية، بل هناك من يجعلها من مقومات تدينه وتعبيره عن شخصيته الدينية، وهنا تكمن الخطورة.
2- التطرف الفكري: يعتقد البعض أن الفكر ما إن يتحرك من دائرة الحق حتى يقع في الباطل, فالتشدد في تبني الأفكار وجعلها الميزان في تصنيف الناس, فأهل الحق من يأخذ بهذه الأفكار وغيرهم أهل باطل وضلال؛ له دور كبير في انزلاق المجتمع في دائرة العنف. فجعل الاختلاف الفكري في إطار الصراع بين الحق والباطل يجعل المختلفين متوثبين لممارسة العنف ضد بعضهما. فالتطرف الفكري هو باب واسع لدخول العنف للمجتمع, فرفض التطرف الفكري يمهد الطريق لكل الأطراف للدخول في حوار، والحوار هو أنجع الطرق لإزالة الكثير من اللبس وسوء الفهم بين الأطراف، وبذلك يحمي المجتمع نفسه من السقوط في دائرة العنف. فالأهم هو مد جسور التفاهم بين الأطراف، والتطرف الفكري هو من أكبر العوائق في طريق هذا التفاهم. فمن يتحرك على أنه هو صاحب الحق وغيره على باطل، هو إنسان لا يتحمل غيره وفي دائرة هذا الفهم يتشكل السلوك العنيف.
3- البُعد الإنساني: لعل أكثر ما يهتم به الدين في توجهه للإنسان والمجتمع هو تعزيز الجانب الإنساني. فالإنسان المتدين الذي يغيب البُعد الإنساني في بناء شخصيته ينتهي بنفسه إلى أن يكون من جند الشيطان. فالإنسانية هي التي تحمي الإنسان من الوقوع في التفسيرات الخاطئة للدين والتي قد يظن البعض أنها تعطيه الغطاء الكافي لتبرير ممارسته للعنف. فالإنسانية تحمي الدين من أن يوظف من أي طرف كان، وإذا ما اختل هذا البعد عند الإنسان أو المجتمع فإن من السهل على هذا المجتمع أن ينزلق في دائرة العنف. فعلى أي مجتمع يريد أن يعيش مسالما مع نفسه ومع الآخرين أن يحفظ الإنسانية كمكون رئيسي في ثقافته الجمعية وأن يحافظ على هذا المكون من أن يختل حتى في اشتباكه مع الآخرين في مسائله الخلافية. فالعبارة التي تقول إن على المرء أن يكره الجيران التي كانت منتشرة وتستخدم بكثرة في الخطاب الثقافي الألماني في العهد النازي؛ هي على بساطتها كان لها دور كبير في تشكيل ثقافة الناس وصياغة نظرتهم الاستعلائية للآخرين. فهذه العبارة البسيطة استطاعت أن تخلق مخزونا نفسيا رهيبا من الكراهية للآخرين عند الشعب الألماني، وعندما وصل هذا الحد من الكراهية إلى مستوى استطاع أن يستوعب المشاعر والأحاسيس للمجتمع، كانت النتيجة اندلاع الحرب العالمية الثانية، وما آلت إليه هذه الحرب من قتل ودمار وخراب للقارة بأكملها. فعندما أسمح للكراهية بأن تشكل ثقافة المجتمع ووعيهم وأن أجعل منها الأساس والمنطلق في بناء العلاقة مع الآخر، فأنا بذلك أمهد نفسي للقبول بالعنف وتبريره, فلا يكفي أن نحارب العنف في إطار الممارسة، وإن كان هذا مطلوب، لكن لا بد لنا من أن نحارب ثقافة هذا العنف وهي الكراهية التي تتكفل في كل مرة بإنتاج أشكال جديدة من العنف, ولن يكون بمقدور أي مجتمع أن يعيش في سلام مع نفسه ومع الآخرين ما لم ينبذ ثقافة الكراهية وأن يقبل بمبدأ التعايش مع الآخرين من دون أن يصادر حقهم في التنوع والاختلاف.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي