اختراق المعضلة الإسكانية (2)

تولى بعض المجتمعات اهتماما للمخاطر الخارجية التي تواجهها، بيد أنها لا تحفل بالقدر نفسه من الاهتمام والهمة بالمخاطر الداخلية. علما أن ضمان سلامة وتماسك البنيان الاجتماعي الداخلي هو الأساس الأول لمواجهة أي خطر خارجي. إنها قاعدة عامة سطرها التاريخ في كل زمان ومكان، وهي قاعدة نافذة في حق كل المجتمعات، متقدمة كانت أم متخلفة، غنية أم فقيرة! فلا شيء أكثر خطورة على دولة ما، حتى لو كانت ذات بأس شديد وسلاح مكين، مثل خطر انهيار بنيانها الاجتماعي الداخلي.
وقد بدأنا ـــ ولله الحمد ـــ منذ فترة طويلة نولي التحديات الاقتصادية التي تواجه مجتمعنا اهتماما ملموسا سواء من خلال خطط التنمية الخمسية أو الموازنات الحكومية السنوية. بيد أن جهودنا لم تكن بالقدر والثبات والسرعة الكافية، فغدت منجزاتنا غير كافية لإطفاء لظى نمو السكان، ما جعل التحديات نفسها والمخاطر تراوح مكانها عبر أربعة عقود من الخطط التنموية. لقد كان الوصول لبعض الأهداف الاقتصادية يقتضي اختراقا إداريا غير عادي لمعوقات التنمية!
ومن هذه التحديات التي ما زالت تراوح مكانها المعضلة الإسكانية. وستزيد الثغرة بين الموجود والمطلوب في قطاع الإسكان اتساعا إذا لم تنهض جهود مخلصة ومنسقة ومتكاملة للقضاء على مسببات هذه الفجوة. والأحداث من حولنا تحذر من أن فشل جهود التنمية ـــ لا قدر الله ـــ في مجاراة ما يفرضه نمو السكان العالي من ضغوط لتوفير أساسيات الحياة كفرص العمل والمساكن والمرافق عامة، سيدفع مجتمعنا نحو دوامة من عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي نحن في غنى عنها.
عندما قرأت الحوار الذي أجراه الزميل عبد الله البصيلي مع المهندس على الزيد رئيس مجلس إدارة الشركة العقارية السعودية ونشرته ''الاقتصادية'' الأحد الماضي، ازددت اقتناعا بأننا لا نعدم العقول النيرة العارفة بطبيعة مشكلاتنا، القادرة على تشخيص الداء ووصف الدواء! لكننا نفتقد شيئا ما ليضعنا على الطريق السليم لحل مشكلاتنا. كانت إجابات المهندس الزيد دقيقة وصادقة، لم تنم عن إجابات خبير عالم بقضايا التطوير العقاري وطبيعة العقبات الإدارية التي تواجهه فحسب، وإنما أيضا عن حكيم عارف بفلسفة إدارة التنمية، وخاصة فيما يتعلق بحدود دور الأجهزة الحكومية في ممارسة الأنشطة الاقتصادية.
لقد وفق المهندس الزيد عندما أشار إلى مسألة مبدئية مهمة في منهج إدارة خطط التنمية، وهي ضرورة أن تتجنب المؤسسات الحكومية الانشغال بالمشاريع التي تدر دخلا، فهذه يجب أن تترك للقطاع الخاص لأنه سيكون أكثر كفاءة في تنفيذها سواء من ناحية الجودة أو التكلفة. ولهذا كانت دعوته لهيئة الإسكان العامة أن تبقى حارسة لنشاط الإسكان لا ممارسة له ـــ ما وسعها الأمر ـــ وأن تركز جهودها في العمل كمنظم ومشرع وموجه ومحفز للنشاط الإسكاني. مع التسليم بالطبع ببعض الاستثناءات الضئيلة، عندما تغدو قوى السوق غير قادرة على جذب القطاع الخاص للقيام بمشاريع تفرضها دواعي اجتماعية أكثر من دواعي الربحية. إن الدور المثالي للأجهزة الحكومية هو أن تكون خادما حقيقيا لتسهيل ممارسة الناس أنشطتهم في حدود القوانين المرعية. ولذلك فإن أعظم ما يمكن أن تقوم به هيئة الإسكان أمران:
الأول، أن تجد مخرجا استراتيجيا دائما من معضلة عدم توافر الأراضي. إذ يجب أن تصل الأراضي، التي لا فضل لأحد في وجودها، للناس وللسوق بتكلفة تسويتها فقط. ونحن نقر لها بأن هذا جهاد إداري لا يجاريه جهاد، والانتصار فيه هو انتصار لسلامة البنيان الاجتماعي للأمة، وإخلاص ما بعده إخلاص لولاة الأمر.
والثاني، هو أن تنجح في بناء قناة خدمات فاعلة بين القطاع الخاص العامل في قطاع الإسكان من جهة، وبقية الأجهزة الحكومية ذات العلاقة من جهة ثانية (البلديات، والمحاكم، والاستقدام.. ونحوها). فتسهل عليهم استخراج تراخيص البناء، والكهرباء، والماء، والتأشيرات، وصكوك الأراضي، وتعمل على توفير كل البنى المساندة اللازمة لمشاريع الإسكان. نعم لو استطاعت هيئة الإسكان القيام بهذه التسهيلات فخدمت المواطن تماما كما سخرت هيئة الاستثمار جهودها لتذليل واختصار وتسهيل وتجميع مختلف الإجراءات الحكومية للمستثمرين الأجانب في مكان واحد، لكان هذا إنجازا عظيما ستظهر إيجابياته سريعا على جهادها في سد ثغرة الإسكان المستحكمة.
علينا دائما أن نتذكر أنه لا يحق لنا تمني القضاء على معضلاتنا الاقتصادية قبل أن نجبر أنفسنا على فعل ما يجب علينا القيام به.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي