إذا الشعب يوما أراد الحياة!
جاءت الأحداث الأخيرة في الشقيقة تونس لتؤكد ما سبق أن ذكرته غير مرة، من أن المؤشرات الإيجابية لمجمل الاقتصاد لا تكفي وحدها للحكم على سلامة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. فتحسن معدل النمو الاقتصادي، ومعدل الاستثمار، ومتوسط الدخل الفردي لا يعني بالضرورة أن السواد الأعظم من أفراد المجتمع يستفيد من ثمرات التنمية. فالقضية إذن ليست مؤشرات كلية فحسب، بل أيضا طريقة توزيع مكاسب النمو. كما ألا ننسى أن كثيرا من التقارير الدولية تبنى على أرقام حكومية رسمية، وهي أرقام غير موثوقة في الدول النامية، ولعل هذا يفسر التناقض بين ما جرى في تونس من أحداث، وما كانت تبثه بعض الوكالات الاقتصادية الدولية من تقارير اقتصادية إيجابية عن الاقتصاد التونسي!
ومن هذه التقارير ما نشره مرصد جودة الحياة International Living الذي وضع تونس في مراتب متقدمة، وفق مؤشر التنمية البشرية وجودة الحياة. فجعلها تتصدّر قائمة الدول العربية التي تتمتع بمستوى معيشي جيّد، إذ أعطاها هذا المرصد 56 نقطة من أصل 100 نقطة، تم احتسابها، وفق مؤشر تضمن جملة من المعايير المتعلقة بتكلفة المعيشة، ونسق النمو الاقتصادي وجهود الحفاظ على البيئة، والمستوى الثقافي، ودرجة الترفيه، والصحة، والبنية الأساسية، والقدرة على التصدّي للمخاطر، ونوع المناخ وأيضا مستوى الحريات! ومع ذلك لم يخف الخبراء الذين أعدوا هذه الدراسة خشيتهم من التداعيات السلبية لارتفاع معدل البطالة، ونمو عدد خريجي التعليم العالي، حيث تمثل نسبة حاملي الشهادات الجامعية 55 في المائة من الطلبات الجديدة في سوق العمل.
والواقع أن هذه الأحداث المؤلمة جاءت لتدق ناقوس الخطر في كل مجتمعاتنا العربية التي تئن من معدلات بطالة هي من الأعلى في العالم قاطبة، فكيف إذا اقترن علو كعب البطالة بالتسلط والفساد ومحاربة الناس في عقائدهم، وانعدام الحريات والاستهانة بكرامة الناس وحقوقهم الأساسية؟ إن هذه الأحداث تجدد تأكيد الحقيقة التي ينساها الطغاة في غمرة استبدادهم، وهي أن لكل ظالم نهاية، وأن الشعوب الحرة لا يمكن بحال أن تقبل استمرار الظلم والقمع والقهر، ولا بد لها أن تنتفض في يوم ما لتسترد كرامتها وحقوقها، ومن لم ينفجر منها اليوم سينفجر غدا. وقد قالها شاعرها الفذ:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر!
تلك هي سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وللأسف، فإن كثيرا من البلدان العربية تسجل أسوأ النتائج الاقتصادية على المستوى العالمي في مجالات عديدة منها التوظيف، ومكافحة الفساد، والشفافية، وعدالة توزيع الثروات، وجهود التنمية. والتخلف لا يكون عيبا إلا إذا تقاعست المجتمعات خلال 50 عاما عن تغير هذا الواقع، والانطلاق في مضمار التنمية كبقية الأمم الحية. لقد أدت هذه النتائج السلبية مع ضغوط ارتفاع معدل نمو السكان (الذي يعد الأسرع والأعلى في العالم) لتوليد واحدة من أعلى معدلات البطالة على المستوى العالمي، الذي قدرها تقرير صادر عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لدول غرب آسيا بأنها تصل إلى 54 في المائة، وهي نسبة مذهلة ومخيفة. فيما أشار التقرير إلى أن عدد الفقراء في المنطقة العربية مقاس بخطوط الفقر الوطنية الدنيا، قد زاد في السنوات العشر الماضية من 34.9 مليون إلى 35.2 مليون شخص. ولذا اعتبر تقرير آخر صادر من اللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة أن البطالة تعد بحق تحديًا إنمائيًا رئيسا في معظم الدول العربية.
وكانت تقارير صادرة عن ''المنظمة العربية للعمل'' وعن ''منظمة العمل الدولية'' قد قدرت أن يبلغ عدد العاطلين في العالم العربي في العام الجاري 30 مليون عاطل، وهو عدد يتطلب القيام باستثمارات بنحو 70 مليار دولار، ورفع متوسط معدلات النمو الاقتصادي في المنطقة العربية من 3 إلى 8 في المائة، من أجل استحداث خمسة ملايين فرصة عمل سنوياً للسيطرة على مشكلة البطالة، علما أن حجم القوى العاملة العربية يزيد بمعدل 3.5 مليون عامل سنوياً بنسبة تصل إلى 3 في المائة. والمؤسف أن البطالة في العالم العربي تتصف بارتفاع نسبة بطالة المتعلمين لعدة أضعاف نظيرتها بين قليلي الحظ من التعليم، خصوصاً الأميين منهم، ومن الواضح أن السبب الرئيس لارتفاع ظاهرة البطالة بين الشباب والمتعلمين في العالم العربي يعزى إلى عدم ملاءمة نوعية أنظمة التعليم في المنطقة لاحتياجات التنمية وأسواق العمل المتغيرة، واقتصارها على التلقين دون الفهم والتفكير والإبداع. وما يفاقم من وضع البطالة تعقيدا في بعض الدول العربية زيادة عدد العمال الأجانب لنحو 80 في المائة من حجم قوة العمل!
وقد دفع هذا الحال البائس لمستوى البطالة في العالم العربي قادتهم، خلال آخر مؤتمر للقمة العربية الاقتصادية والاجتماعية، إلى وضع أجندة عربية مشتركة لخفض نسبة البطالة في المنطقة العربية إلى النصف خلال السنوات العشر المقبلة، بجانب ضمان زيادة الإنتاجية في المنطقة بنسبة 10 في المائة، ولا أعلم إلى أي مدى وصل تنفيذ هذه الأجندة! إن السيطرة على معدلات البطالة المستفحلة في منطقتنا العربية في حاجة إلى بذل جهود حثيثة وجادة لتبني خطط وسياسات اقتصادية فاعلة، خصوصاً في القطاعات الاقتصادية القائمة على المعرفة، حيث تستطيع تحقيق معدل نمو سنوي لا يقل عن 8 في المائة سنوياً حتى عام 2025. ولن تثمر جهود التنمية دون بذل جهود أخرى موازية وصادقة للقضاء على الفساد وتحسين طرق توزيع الدخل والثروة، وحماية أحوال الطبقتين المتوسطة والفقيرة اللتين تعرضتا لتدهور ظاهر مستمر بفعل الفساد وضعف التعليم. إذا فقد الناس الأمل، علينا توقع أي شيء منهم! نسأل المولى الكريم اللطف من سوء العواقب.