هل هي أزمة تستحق إدارة؟
تشهد المملكة نهضة تنموية عملاقة في كثير من المجالات يقودها خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده وسمو النائب الثاني.
وتمكنت البلاد عبر رؤية ملكية سامية من تحقيق مستويات مرموقة في العلاقات الدولية. كما نجحت المملكة في تحقيق قفزات تحظى بالتقدير والاحترام في مجال مكافحة الإرهاب وتحقيق مزيد من الاستقرار يسجل لرجال الأمن الشرفاء وعلى رأسهم سمو النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية.
#2#
وفي مقابل ما تشهده البلاد من مشاريع كبيرة وتحولات بارزة في ميزانياتها لدعم البنى التحتية والتعليم بكل فروعه والصحة وغيرها, لا يزال الاستقدام الجائر للعمالة غير السعودية يشكل واحدا من أكبر التحديات المستقبلية, حيث علاقته المباشرة بتراكم البطالة بين القوى العاملة السعودية. ولا تزال مشكلة البطالة تستحق مزيدا من البحث للخروج بأفضل الحلول فحصاد نهاية العام الدراسي سنويا يأتي لتنتعش الآمال الشخصية والاجتماعية نحو مستقبل مشرق للشباب. والواقع أنها مناسبة سنوية يزيد فيها ما هو حادث بيننا من تعاظم مستمر لأعداد الشباب على قوائم الانتظار للحصول على فرص وظيفية. وفي الوقت نفسه يتوجس الكثير خيفة من تبعات تراكم الأعداد السنوية من العاطلين وتأثير ذلك في الأمن الوطني في مجالاته المختلفة.
وإنني أعتبر أن عدم المعالجة العاجلة والشاملة لهذه الأزمة الوطنية يعد ''تفخيخا للمستقبل''. وتهدف هذه الخاطرة إلى إثارة اهتمام المختصين بدراسة وعرض السلبيات المعروفة والمتوقعة التي تشكل خطراً وطنياً, وتقديم المقترحات الوطنية القابلة للتطبيق. وأتمنى للحلول العاجلة أن ترى النور لتضيء منازل طالما نهشتها تبعات الفقر والبطالة, وتطمئن نفوساً طالما آلمها اليأس والحاجة. وليرتاح وطن يستحق الازدهار والسؤدد؛ وهو يملك كافة المقومات التي ستمنحه كل ما يستحق لرفاهية مجتمعه وحفظ أمنه المستقبلي.
فالجامعات والكليات المتوسطة والمعاهد تستوعب نسبة محددة سنويا من خريجي الثانوية العامة لمواصلة دراستهم الجامعية. وكذلك نسبة أخرى يتم قبولهم في مجالات عمل متنوعة في القطاعين العام والخاص. وتبقى نسبة أخرى من الطلاب لم يتيسر لها ما تيسر للآخرين لأي سبب قد يكون خارجا عن إرادتهم وقد يكون بسبب تدني معدلات تخرجهم. وتشكل هذه النسبة من خريجي الثانوية العامة الذين لا مكان لهم دراسياً أو وظيفياً بعد تعاظم الأعداد سنوياً رقماً مؤلما على المستوى الوطني ومؤلما على المستوى الشخصي والأسري فإذا أضفنا إلى ذلك الرقم المتراكم أعداد المتسربين سنويا من الصفوف الأخرى ما دون الثانوية العامة, وأعداد من تخرجوا في الجامعات والمعاهد ولم يتمكنوا من الحصول على الوظيفة فإن المشكلة الكامنة المتراكمة تعتبر أكبر بكثير مما ندرك حاليا بما قد يشبه جبل الجليد الذي لا يبرز منه إلا قمته.
ولأن الشباب قد منحهم الله سبحانه وتعالى النشاط والقوة الجسدية والصحة، فإن ذلك يتناقض حين نعلم أيضا أنهم في مقتبل العمر يكونوا أكثر حماسة وأكثر اندفاعاً وعاطفة للانخراط في المستقبل وتحقيق ذواتهم، وقد اصطدموا بحقيقة مؤلمة وهم على عتبات رحلة حياتهم العملية المفترضة عبر بوابة مقفلة مجهول ما وراءها فكل شاب في رأسه أمل كبير لنفسه ولأسرته. ويتضاعف الأمل حين ينظر الشاب يمينه ويساره فيرى الآخرين وقد يسر الله لهم من فرص تحقيق المستقبل ما لم يتيسر له بغض النظر عن الأسباب فلا تكفي أي تبريرات أو أسباب يتذكرها الشاب أو يسمعها من غيره ليقتنع بواقعه المثبط حيث تقطعت به السبل ليمضي الزمن وهو سجين البطالة والفراغ والحاجة.
ويمر الزمن فتتضاعف المشكلات وتتراكم حاجات الشاب القانط وتمتد سلبيات بطالته إلى أسرته وأقاربه ومحيطه الاجتماعي فإذا نظرنا بمنظار متجرد دون البحث في الأسباب ودون البحث عن تبريرات عن الحالة التي يعانيها الشاب العاطل عن العمل أو عن سبب عدم استمراره في مواصلة الدراسة فسوف نجد أننا أمام أمر واقع مؤلم وخطير لعشرات الآلاف من الشباب يجوبون الشوارع ويملأون البيوت في انتظار المجهول لمستقبلهم الشخصي. والشباب وهم في هذا الواقع الأليم يؤسسون أيضا بنية تحتية معقدة لمستقبل مجهولة تبعاته. وفي نهاية كل عام دراسي تضخ آلاف أخرى ليتعاظم اليأس وتقل فرص العمل للقدامى من العاطلين، ويتجاوز القدامى السن المقررة لكثير من الوظائف أو تتقادم شهاداتهم ومعارفهم فلا تنطبق عليها شروط التوظيف التي تحبذ حديثي التخرج.
وهكذا يسوء الوضع النفسي والجسدي لعشرات الآلاف من الشباب. وتتحول قوتهم الجسدية وطموحهم الوهمي ونشاطهم بموجب الإحباط وبسبب الظروف المادية والمعنوية القاسية إلى عوامل خطر اجتماعي مؤكد فالتفاعل البشري في البيت أو المجتمع الذي يعاني انعدام الدخل وانعدام الفرص الوظيفية وانعدام الأمل سوف ينتج عنه كثير من السلبيات بمختلف مستوياتها ودرجات مخاطرها؛ ومنها الجريمة بكل أنماطها.
وحين تنتشر الجريمة مهما كانت صغيرة فإنها لن تقف عند حد معين يمكن أن يكون مقبولاً؛ بل إن زيادة عدد العاطلين عن العمل تزيد عدد الجرائم تلقائياً. ومن زجت به الظروف في جنحة صغيرة أو جريمة من أي نوع فسوف يكون هدفاً سهلاً وضحية لظروف مشابهة ليجد نفسه جزءاً من جريمة أخرى أو خطر أكثر ضد أمن المجتمع وأمن البلاد.
وهنالك قوى خفية قد يصعب حصرها أو حصر أهدافها ستعمل على تحريك مجاميع العاطلين عن العمل للاستفادة منهم بما لا يجوز وبما يضر أمن أو أخلاق المجتمع. وتتعدد الطرق الخفية والذكية لإمكانية توجيه العاطلين أفرادا أو مجموعات بشكل مباشر أو غير مباشر للعمل في مجالات محظورة وأخرى قد تغرس الأذى أو الخطر ضد أمن البلاد. كما أن الحاقدين من الأفراد والتنظيمات لن يجدوا جسرا ينفذوا من خلاله أو مرتعا خصبا لغاياتهم إلا بتصيد بعض المحبطين من العاطلين لاقتناص أشخاص محددين تتوافر فيهم الخصائص المناسبة لكل جهة أو تنظيم غايته الضرر للوطن أو المجتمع.
وإنني على يقين بأن أي دراسة ميدانية موثقة عن النتائج السلبية للبطالة في أي مجتمع خلال العشر سنوات الماضية سوف تعكس نتائج مخيفة عن أضرار البطالة على الأمن الوطني في جوانبه الفكرية والجنائية والاجتماعية والاقتصادية؛ ناهيك عن الضرر في الجوانب السياسية بمفهومهما الشامل. كما أن العامل الرئيسي المسبب لتراكم البطالة بين القوى العاملة السعودية ليس بسبب تدني التأهيل ومناهج التعليم كما يزعم البعض؛ بل هو في الواقع ناتج عن وجود عمالة غير سعودية تستقدم بشكل جائر, وفي بيئة عمل ونظام عمل تستحق إعادة النظر واستكشاف مكامن الخلل فلا مكان للعامل السعودي أن ينافس غير السعودي في ظل معطيات الاستقدام والتوظيف الراهنة مهما كانت مهارات وخبرات العامل السعودي مرتفعة.
وعن أسباب تراكم البطالة فإنني مقتنع بأنه إلى جانب عوامل أخرى ثانوية أو ضمنية فإن العامل الأكبر والجذري فيها يعزى إلى بيئة العمل السعودي في القطاعين الخاص والعام فهنالك اعتبارات محددة أجد أنها مسئولة بالدرجة الأولى عن تراكم البطالة. وفي مقدمة هذه الاعتبارات نظام العمل الذي يحتوي على ثغرات مهمة لا بد من تجسيرها للانتقال من البطالة إلى التوظيف فالحد الأدنى للأجور مطلب حتمي ونهج تأخذ به معظم الدول المتقدمة والنامية وهو أحد الاعتبارات التي تمت دراستها وتجربتها في أكثر الدول الصناعية كمطلب رئيس للحد من البطالة, وتحقيق مزيد من الرفاهية الاجتماعية. ثم إن التطبيق الصارم لمواد محددة في نظام العمل مثل ساعات العمل اليومي واشتراطات بيئة العمل في كل منشأة يعد من المقومات الجاذبة للعامل السعودي.
ومن الطبيعي جدا أن تتنافس منشآت التوظيف في العمالة الرخيصة حيث يمكن لها اليوم أن توظف ستة عمال أو أكثر من غير الجنسية السعودية بما يوازي الحد الأدنى المفترض للعامل السعودي. كما أن ساعات العمل الطويلة وبيئة العمل المتدنية وغيرها تعد عوامل طرد للعامل السعودي, وهي في الجانب الآخر تكرس ـــ عبر مفاهيم مغلوطة وظالمة ـــ سمعة سيئة عن الشباب السعودي ومدى قدرته على المنافسة.
وقد يتناسى البعض ما عرف عن السجل المشرف للعمالة السعودية عند تأسيس شركة أرامكو حين بدأت في التنقيب لحقول النفط وتشييد معاملها بعد توحيد البلاد على يد مؤسسها العظيم الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، يرحمه الله فقد كان عمال أرامكو سعوديين من آبائنا وأجدادنا يعملون تحت إدارة مهنيين ومهندسين محترفين من الجنسية الأمريكية. ولم يكن حينها استقدام العمالة من خارج البلاد شأنا معروفا. وكانت أرامكو تهيئ وتحفظ الحقوق المادية والمعنوية كافة للعمال بما في ذلك بيئة العمل الآمنة والكريمة وتحقق لهم مقررات مالية تلائم حجم الأداء ومستوى المعيشة حينئذ. كما حفظت الشركة للعمال حقوقهم في التدريب والتأهيل وحسن الإعداد, وفي ساعات العمل المعتمدة وساعات العمل الإضافية ناهيك عن العلاج والسكن الملائم, وغيرها من ضمنيات حسن الإدارة.
وكانت فلسفة أرامكو الإدارية فاعلة ومؤثرة في وعي العمال وثقافتهم, فعمل السعوديون حينها في شتى المهن اليدوية الشاقة في صحارى قاحلة وتحت أسوأ الظروف المناخية. وكان العمال السعوديون في أرامكو مثالا للإبداع والوفاء رغم تدني مستوياتهم التعليمية والمهنية. وبسواعدهم السمر قامت منشآت أرامكو العملاقة, وكان لبيئة عمل أرمكو الناجحة تأثير رائع في معنويات العمال وإنتاجياتهم, وتقبلهم مهنا لم يكن لهم بها سابق عهد. وبحكم مرور عشرات السنين تراكمت ثقافة عمالية إيجابية في مجتمعنا السعودي لم تتأثر إلا بعد اكتساح العاملة الوافدة وانتشارها بشكل كبير وفتح باب الاستقدام إلى درجة الحديث عن خطورة التسيب والبطالة بين العمالة الوافدة حاليا.
واليوم, ترتفع نسب البطالة بين شبابنا في مواجهة العمالة المتزايدة؛ وفي ميدان غير متكافئ. وإنني أتوقع أن لا حلول جذرية للتخفيف من مستوى البطالة إلا عبر تضييق قنوات استقدام العمالة غير السعودية, وهذا شأن لا يتحقق إلا بتضافر جهود عدد من الوزارات. وأتفق مع من يقول بحاجتنا للأيدي العاملة غير السعودية, ونحن بلا شك جزء من عالمنا, ويصعب أن نعيش في عزلة تامة. ولكن حاجتنا للعمالة غير السعودية لا يفترض أن تكون على حساب تعاظم أعداد العاطلين عن العمل من المواطنين. وليس صحيحا أن كل العمالة غير السعودية تعتبر عمالة ماهرة وخبرات نادرة, من تلك الخبرات التي لا توجد في بلادنا فالأغلبية العظمى من العمالة غير السعودية هم من ذوي المؤهلات المتدنية وحجم الأمية بينهم كبير.
وهكذا تتركز المشكلة في ثلاثة عناصر رئيسية كلها ذات علاقة بنظام العمل, هي أولا, ضعف نظام العمل بصفة عامة, وخصوصا الجوانب التنفيذية فيه, فلم نتمكن من خلاله من وضع حلول جذرية لتراكم البطالة بين السعوديين, وتعاظم الاستقدام للعمالة غير السعودية. وثانيا, حقيقة تدني مستوى بيئات العمل في كثير من المنشآت وخاصة المنشآت الصغيرة, وهي طاردة للعمالة السعودية, وتشكل مرتعا خصبا للعمالة الوافدة. وأخيرا, انخفاض الأجور دون حد أدنى, وزيادة ساعات العمل, وتلك مقومات جذب للعمالة الوافدة.
وللتفكير في أبعاد هذه القضية, علينا أن نفكر من زاويتين مهمتين تمهيدا لرؤية مدروسة من شتى الزوايا المهنية ومتكاملة نحو حلول منطقية وقابلة للتطبيق. الأولى, لو قبلنا القول إن العمالة غير السعودية تشكل ما مجموعه ثمانية ملايين عامل فإن من الحكمة القول إننا قادرون بإذن الله على أن نخفضها إلى سبعة ملايين لنوفر مليون فرصة عمل متنوعة للسعوديين. والأخرى, أن نتذكر حجم المليارات التي يتم ضخها وتصديرها سنويا خارج المملكة لمصلحة العمالة غير السعودية ـــ وهذا حق طبيعي لهذه العمالة ـــ ولكن توفير نسبة معينة من الأموال المصدرة واستثمارها داخل البلاد عبر توظيف السعوديين يستحق منا إعمال مزيد من التفكير لما لهذا من إيجابيات كبرى.
ويكمن الحل الشامل لهذه القضية الوطنية الأكثر تعقيدا حين يكون هنالك قناعة بأنها حقا تعتبر ''أزمة وطنية '', كما أراها كذلك. وحينئذ يكون الحل في إدارة هذه الأزمة من هذا المنطلق, وبموجب ''أسس إدارة الأزمات الوطنية'', التي لا تتوقف عند حملة توظيف أو تعديل مادة في نظام, أو وضع حل جزئي مهما كانت صحة ذلك الإجراء الجزئي. والإدارة الفاعلة للأزمة الوطنية تأخذ في الاعتبار الأبعاد الوطنية كافة وكل ''مصادر القوة الوطنية '' الملائمة لتؤثر الحلول المتوقعة في مستقبل ''عناصر قوة الدولة الأربعة '' ــــ الثقافية والاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية ـــ بشكل مدروس ومتكامل ثم إن الإدارة الفاعلة للأزمة لا بد أن تنطلق من ''رؤية مستقبلية'' محددة ''وفلسفة عمل'' واضحة تنتج عنها ''خطة عمل زمنية'' ممولة وملزمة وقابلة للتطبيق.