التنمية والنقل العام قبل فوات الأوان
إذا كانت مدننا ظلت تعيش خلال الأعوام القليلة الماضية مشكلة رئيسة من غياب شبكة تصريف السيول وقبلها كانت مشكلة الصرف الصحي, فإننا اليوم نعيش مشكلة تلك الحقبة في مجال النقل العام.
سابقا قيل لا حاجة إلى شبكات تصريف السيول لأننا دولة غير مطيرة, وتنفيذ شبكات تصريف السيول ستكلف الحكومة ملايين الريالات واستعمالها لا يتجاوز يوما أو يومين في السنة, وفي هذا هدر للمال العام, خصوصا أن بعض خبراء الاقتصاد والبحث قالوا ليس هناك جدوى اقتصادية من إنشاء شبكات تصريف السيول, كما أن لها أثرا بيئيا سلبيا يتمثل في انتشار الجراذي والحشرات وغيرها داخل تلك الشبكات إذا بقيت من دون استعمال, وهو ما سيؤثر سلبيا في الصحة العامة وغيرها، مما أكد عليه في ذلك الزمان. كما أن غياب الدراسات المناخية والتوقعات للتغيرات المناخية, إضافة إلى تأثر الدخل الوطني بانخفاض عائدات النفط أدت إلى عدم الاهتمام بشبكات تصريف السيول, وكذلك عدم الاهتمام بشبكات الصرف الصحي, ونحن اليوم نعيش مشكلة غياب تلك الشبكات من جهة, ومن جهة أخرى نعاني من تنفيذها بعد توافر الاعتمادات نتيجة تنفيذها داخل مدن قائمة، ما يصعب المسؤولية والإدارة والتنفيذ, ثم إن التكلفة انتقلت من ملايين الريالات إلى مليارات الريالات, وهو ما يؤكده ما يعتمد سنويا من مشاريع لشبكات تصريف السيول والصرف الصحي.
النقل العام, خصوصا استخدام القطارات بمختلف أنواعها وأحجامها ونوعية استخدامها, أصبحت مطلبا مجتمعيا وعمليا وخدميا وتنمويا أساسيا سواء للانتقال داخل المدن أو بين المدن والمناطق, خصوصا مع ارتفاع أعداد المقيمين في المدن من السعوديين وغير السعوديين, إضافة إلى الحاجة إلى الانتقال بين المدن نتيجة هجرة سكان بعض القرى والمدن للمدن الرئيسة وحاجتهم إلى العودة إلى مدنهم وقراهم خلال الإجازات والمناسبات الرسمية والشخصية, كما أن استنزاف الوقت والجهد من خلال استخدام السيارات الخاصة داخل المدن وما يؤدي إليه ذلك من اكتظاظ الطرق والشوارع, بحيث أصبح الانتقال بالسيارة الخاصة معاناة لا تعادلها معاناة في بعض المدن واستنزافا للوقت والجهد والفكر لا يعادله استنزاف, كما أن كثيرا من الأمراض النفسية تسربت لعديد منا نتيجة ضغط الاختناقات المرورية على الطرق وتأثيرها في الوقت وتأثيرها السلبي في أعمالنا ومصالحنا وحقوقنا.
كل هذه العوامل وغيرها كثير أصبحت ضاغطة على أهمية الاهتمام بسرعة العمل على إنشاء وإيجاد وسائل نقل عام من قطارات ووسائل نقل عامة أخرى, ومع أن بعض مدننا اليوم نمت بشكل كبير وتنفيذ شبكات القطارات فيها ستكون مكلفة إلا أن تنفيذها اليوم أصبح ضرورة ملحة وتأخيرها هو تأخير غير مبرر كما حدث مع شبكات تصريف السيول والصرف الصحي, كما أن تأخيرها سيرفع تكلفة إنشائها في المستقبل.
الجدوى الاقتصادية البحتة المباشرة لإنشاء شبكات القطار غير مجدية, وذلك معروف في كل دول العالم, ومعروف أن النقل العام يحتاج إلى دعم الحكومة المباشر, لكنه في واقع الحال مطلب تنموي اجتماعي مهم, خصوصا أن غيابه سيزيد حجم المشكلة وتأخيره سيزيد تكلفة تنفيذه.
إن غياب وسائل النقل العام, خصوصا القطارات داخل المدن وخارجها, له آثار سلبية كبيرة أهمها استمرار النمو العالي للمدن وتمددها الأفقي, وهذا التمدد ذو أثر سلبي في توفير المرافق والخدمات يتضاعف مع تضاعف التمدد ويزيد من تكلفة تمديد شبكات المرافق, خصوصا تلك التي تعتمد على الميول, بمعنى أن إنشاءها يصبح صعب التنفيذ وصعب التمويل والإنشاء، ثم انعكاس ذلك النمو على بقية الخدمات التعليمية والصحية والأمنية وهو ما يعني دفع مليارات الريالات دون ضرورة تنموية.
استخدام القطارات, كما ذكر, مكلف من الناحية الإنشائية وليس له جدوى اقتصادية مباشرة, لكنه سيحقق مع الوقت وفرا ماليا عاليا ذا فائدة مباشرة وغير مباشرة على الحكومة بحكم أنها الممولة المباشرة لمشاريع التنمية, كما أوضحت أن تلك المشاريع ومنها المرافق وشبكاتها والخدمات ومتطلباتها, ولعل أيضا من أهمها إيقاف الهدر العالي في الإنفاق العام على الآثار السلبية من حوادث السيارات وما يصاحبها من أمراض وإعاقات تتم تغطيتها مباشرة من ميزانية الحكومة على شكل علاج ورعاية وتأهيل للمصابين, إضافة إلى هدر مليارات الريالات في إصلاح ما تتلفه حوادث السيارات وما يتم تحويله من أموال نتيجة الاستعانة بآلاف السائقين ومن في حكمهم, بمعنى أن النظرة التنموية لموضوع سرعة العمل على إيجاد نظام للنقل العام سيكون أداة لتقليل التكلفة المباشرة وغير المباشرة على الميزانية العامة للدولة.
إن النظرة التنموية المتوازنة بين العائد الاستثماري الاقتصادي طويل المدى من الاستثمار في المشاريع والبرامج ذات النفع العام ومنها النقل العام، والنظرة الاقتصادية ذات المفهوم القاصر المعتمد على الجدوى الاقتصادية والعائد الاقتصادي المباشر, تؤكدان أهمية الأخذ بالمفهوم التنموي وليس بالمفهوم الاستثماري, لأننا بذلك نوطن الاستثمارات غير المباشرة لخدمة استثمارات مباشرة في المستقبل, والنقل العام هو أحد تلك الاستثمارات غير المباشرة التي تحقق النفع المباشر, ولهذا لا بد أن نعمل على سرعة تنفيذ ما تم إعداده من دراسات ومخططات لتنفيذ النقل العام بالقطارات وما يرتبط بها من وسائل نقل أخرى, ويكون استثمارنا المباشر ذو العائد الاقتصادي هو استثمار مواقع محطات النقل بحيث تكون ذات استعمالات مختلفة كما هو حادث في كثير من دول العالم, والاستثمار الآخر هو إعطاء مسؤولية التشغيل والصيانة للقطاع الخاص, وتكون المنافسة على العائد من التشغيل.
أعلم أن النظرة الاقتصادية وجدواها المباشرة لن تدعم هذا الطلب, لكن النظرة التنموية الاقتصادية الاستثمارية طويلة المدى ستحقق عوائد اقتصادية مباشرة وغير مباشرة على الوطن ككل وتقلل من إنفاق مستقبلي يفوق ما هو مطلوب اليوم.
وقفة تأمل
هويتكــــم بالسمع قبل لقائكــم
وسمع الفتى يهوى لعمري كطرفه
وخبرت عنكم كل جود ورفعة
فلما التقينا كـنتم فــوق وصـفه