خواطر من رحلة الأحلام

هي بحق رحلة الأحلام، على الأقل في قناعتي الشخصية، ربما لأن أحلامي بسيطة، أو ربما لأني لم أعش مثل هذه التجربة الثرية بتنوعها من قبل. المهم أنني سجلت في هذه الرحلة كثيرا من الخواطر والمشاهدات، وأسقطتها على واقع بلادي، مجربا أن أشد الانتباه إلى جوانب مهمة في حياة الأمم، علنا نتعلم شيئا من هذه التجارب كما تعلمت.
الرحلة التي أتحدث عنها هي رحلة في ربوع حضرموت، نظمها واستضاف ركبها المهندس عبد الله بقشان لأربعة أيام كان كل يوم منها رحلة حافلة بالأحداث. ومع أني لا أريد أن أشغل مساحة مقالي بما يخرج عن صلب موضوعه، إلا أنني أجد نفسي مضطرا لأن أسرق شيئا من هذه المساحة لأزجي الشكر والتقدير لهذا الرجل، ليس فقط لكرمه الحاتمي وتواضعه الجم وخلقه السمح وصحبته الماتعة، ولكن أيضا لما شهدته وشهده زملاء الرحلة من حرص على مد يد العون والمساهمة في تنمية تلك المنطقة الغالية من عالمنا العربي، ليؤسس هو وفريقه نموذجا يحتذى به في العمل الخيري التنموي. وبقدر ما أبهرني هذا النموذج الذي سأتحدث عنه فيما يلي من هذا المقال، بقدر ما تمنيت أن أرى مثل هذا النموذج مطبقا في بلادي، مستذكرا واقع العمل الخيري في المملكة، وما يغلب عليه من سيطرة لمعالجة آثار الفقر عوضا عن معالجة ذات الفقر وجذور مشاكله ومسبباته. وأختم هذا الجزء "المسروق" بتحية خالصة لهذا الرجل على كل ما شهدته وصحبي في تلك الرحلة، متطلعا إلى أن تكون له ولغيره مبادرات مماثلة في مملكتنا الحبيبة.
رحلتنا القصيرة بمدتها الطويلة بمحتواها مرت بربوع وادي حضرموت، زرنا فيها مدينة سيئون التاريخية، ومدينة تريم مهد التعليم الديني، وقبلة طلاب العلم من دول العالم قاطبة. لم أتخيل يوما أن أرى جامعة كجامعة دار المصطفى تضم طلابا من 46 دولة، بما فيها دول مثل كندا وبريطانيا والولايات المتحدة، ينهلون علوم الدين في مناخ أشبه ما يكون بمناخ عصور الإسلام الأولى. جامعة ليست ككل الجامعات الدينية، يؤدي فيها المسجد دورا مركزيا في التعليم بحلقاته وندواته العلمية. تساءلت حينها، لماذا ليست جامعاتنا الدينية كهذه الجامعة، وهل أن إشراف مؤسسات التعليم النظامي والرسمي على الجامعات ومؤسسات التعليم حقق لها النهوض والتميز الذي كانت تطمح إليه، أم أنها سلبت منها مثل هذا المناخ التعليمي الرائع الذي رأيته في دار المصطفى؟ لست أتحدث هنا عن المناهج التي تدرس في الجامعة، إذ إنني أعلم أن هناك اختلافا بين التوجهات الدينية السائدة في المملكة وبين تلك التوجهات في دول إسلامية أخرى، مع أن جامعة دار المصطفى تتم فيها دراسة مختلف المذاهب والتوجهات الإسلامية مع اختلاف مشاربها. ولكنني هنا أتحدث عن نموذج تعليمي مختلف تجد فيه الطلاب وقد منحوا وقتهم وذاتهم وحياتهم لطلب العلم حبا في العلم، وليس للحصول على درجات وألقاب يضعونها أمام أسمائهم، ويحصلون بها على وظائف يعتاشون منها. وهو نموذج كان مطبقا وممارسا في كثير من المؤسسات التعليمية في المملكة في أوقات سابقة، مثل مدرسة العلوم الشرعية في المدينة المنورة، ومعهد دار الحديث في مكة المكرمة، فهل نرى لهذا النموذج من فرصة للإحياء والتطبيق؟
رحلتنا شملت أيضا زيارة مدينة شبام التاريخية، وهي لمن لا يعرفها مدينة كاملة مأهولة مسجلة ضمن مواقع التراث العالمي لدى منظمة اليونسكو كأول مدينة ناطحات سحاب مبنية بالطين. مدينة جميلة جمالا أخاذا، شامخة مبانيها مأهولة بأهلها وسكانها. مدينة تستحق أن تكون مزارا سياحيا وثقافيا من الدرجة الأولى، وأن تكون مثالا يحتذى في مجال الحفاظ على التراث العمراني وتأهيله لا ليكون متحفا يزار، بل بيئة تعاش وتستثمر لصالح سكانها. أخذتنا الرحلة بعدها في عرض متتابع لقرى وادي حضرموت المليء بالمدن والقرى التي تحكي كل منها قصة حضارة عريقة خاصة وادي دوعن الشهير بالعسل والقرى المتناثرة على جنباته، التي ترجع إلى كثير منها أصول عائلات الحضارم الذين هاجرو إلى المملكة واستوطنوها. زرنا قرى رباط باعشن التي ترجع إليها أسرة بن لادن، وقرية الهجرين التي ترجع إليها أسرة بن محفوظ، وقرية بضة التي ترجع إليها أسرة العمودي بكل أفخاذها، وقرية خيلة التي يرجع إليها مضيفنا عبد الله بقشان. أجمل ما شهدته في هذه الرحلة الماتعة، إلى جانب العمق الثقافي لتلك المنشآت العمرانية التراثية، كان حجم الانتماء الذي رأيته من أبناء تلك الأسر. فكل منهم عاد بعد أن أنعم الله عليه ليرمم بيته القديم في قريته، أو لينشئ له بيتا جديدا، في تعبير جميل عن احترام الأصول والجذور والافتخار بها. تذكرت حينها كم اندثرت قرانا القديمة، وكم انسلخ أبناؤها عنها، وسيطرت عليهم الحداثة والحضارة المصطنعة. وأصبحت فكرة البناء بالطرز التقليدية فكرة نظرية بعيدة عن التطبيق، وشعارات جوفاء لا تجد لها مكانا على أرض الواقع. الانتماء الذي أتحدث عنه من أبناء تلك الأسر لقراهم الأصلية لم يتوقف عند بناء وتجديد وترميم مساكنهم الخاصة، بل تجاوزه إلى مد يد العون إلى أهلهم وذويهم في تلك القرى والمدن، فأنشأوا المستشفيات والمدارس، وشقوا الطرق والممرات، ومدوا خطوط الكهرباء والمياه، ونهضوا نهوضا حقيقيا بحياة الناس في تلك الحواضر. كل هذا دون أن تمتد يد الحضارة المزيفة إليها، بل حافظ الناس فيها على عاداتهم وتقاليدهم وبيئاتهم، يعيشون حياة القرية بكل ما فيها من بساطة وراحة بال.
الجانب المهم والأكثر إبهارا في مشاهداتي في هذه الرحلة هو التطبيق العملي لمفهوم مأسسة العمل الخيري والتنمية البشرية، والنموذج الحي لهذا التطبيق هو مؤسسة حضرموت للتنمية البشرية، التي أسسها ويشرف عليها مجموعة من رجال الأعمال الحضارم، وتقوم بالعديد من المبادرات الحيوية والرائدة للارتقاء بحياة الناس في تلك الحواضر. بنك الأمل رسم الأمل في قلوب الناس عبر برنامجه الرائع والرائد للتمويل متناهي الصغر، الذي مكن كثيرا من الأسر من سد حاجاتهم عبر تمكينهم من تأسيس أعمالهم الخاصة عوضا عن مد اليد وإراقة ماء الوجه. مبادرة الشباب مبادرة رائعة لتوظيف جهود الشباب في جهود التنمية، وتمكينهم من الحصول على التدريب والتأهيل في أرقى الجامعات العالمية للانخراط في جهود التنمية. المستشفى الذي أنشأته المؤسسة في منطقة وادي دوعن يضم أكثر من 100 فرد من العاملين من أطباء وممرضين وإداريين كلهم بلا استثناء من أبناء المنطقة. هي مفخرة وأي مفخرة. أبناء الوطن يعملون دون كلل لتنمية وطنهم. كم نحن في حاجة إلى مثل هذه المؤسسة في بلادنا، وكم يمكن لرجال الأعمال أن يجودوا على وطنهم وأبنائه بالخير اقتداء بهذه الجهود الرائعة. تعلمت في حضرموت أن العمل الخيري المباشر من صدقات عينية أو مالية يمكن أن يسد جوع الفقراء لفترات محدودة، ولكنه لا يمكن أن يجعلهم أفرادا منتجين، ولا أن يوظف جهودهم في مسيرة التنمية. رأيت هناك نموذجا حيا لمقولة "صنعة في اليد أمان من الفقر". فهل لنا أن نطبق هذه المقولة في بلادنا؟. أتوجه هنا بالدعوة إلى مؤسساتنا التنموية، بما فيها الصندوق الخيري للفقر وصندوق المئوية وصندوق تنمية الموارد البشرية، للتعلم والاستفادة من تجربة مؤسسة حضرموت للتنمية البشرية، وهذا لن يكون أمرا معيبا بحق أي منهم، فالحكمة ضالة المؤمن، وبلادنا تستحق منا الكثير من التضحيات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي