تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد الجهات الحكومية

في مقال منشور في جريدة ''الاقتصادية'' بتاريخ 15/6/1431هـ الموافق 29/5/2010، بعنوان (امتناع الإدارة عن تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضدها)، تناولت بالبحث مسألة امتناع بعض الجهات الإدارية الحكومية عن تنفيذ أحكام قضائية نهائية صادرة ضدها، وأشرت إلى أن بعض القوانين المقارنة مثل القانون المصري جرّمت امتناع الموظف الحكومي عن تنفيذ الحكم القضائي الصادر ضد إدارته ووضعت عقوبات محددة يتعين إنزالها على مرتكب هذه الجريمة، وأشرت أيضا إلى أنه لا يوجد في السعودية نص قانوني يتضمن عقوبات محددة يتعين تطبيقها على الموظفين المختصين الممتنعين عن تنفيذ الأحكام القضائية، واقترحت أن يسن المشرع السعودي نصوصا قانونية خاصة بهذا الشأن تحدد الإجراءات الواجب اتخاذها في حالة امتناع الجهات الإدارية عن تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضدها، وتحدد أيضا العقوبات التي يتعين تطبيقها على المسؤولين الذين يرفضون عمدا تنفيذ هذه الأحكام؛ لأن الامتناع العمدي عن تنفيذ أحكام القضاء النهائي يخالف مبدأ المشروعية، ويعني رفض الامتثال لسطان الشريعة والنظام.
وتدعوني أهمية هذا الموضوع إلى أن أسلط الضوء عليه مرة أخرى، فقد تسنّى لي أخيرا الاطلاع على الأمر السامي رقم (9624/م ب) وتاريخ 22/11/1430هـ بشأن وجوب تنفيذ الجهات الحكومية للأحكام القضائية الصادرة ضدها، حيث جاء نصه على النحو التالي:
(اطلعنا على خطاب معالي رئيس هيئة الخبراء بمجلس الوزراء المرفق به المحضر رقم ''509'' وتاريخ 28/10/1430هـ المعد في هيئة الخبراء بمشاركة مندوبين من وزارة المالية ووزارة العدل بشأن تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضد الجهات الحكومية المتضمن أنه - وفقا للقواعد العامة - لا يمكن استخدام الوسائل الجبرية لتنفيذ الأحكام ضد جهة الإدارة وأن من المبادئ المستقرة عدم جواز الحجز على الأموال العامة وأن هذا المبدأ يشمل جميع أنواع الحجوز التحفظية منها والتنفيذية، سواء أكانت على المنقول أو على العقار، ونظرا لأن للأموال العامة حرمتها وعدم المساس بها من أي كائن من كان، ولما كان على العموم تنفيذ الأحكام القضائية تحقيقا لمبدأ العدالة فإن المجتمعين يرون الآتي:
أولا: التأكيد على جميع الجهات بأن للأموال العامة حرمتها، وأنه لا يجوز الحجز عليها بأي صورة كانت.
ثانيا: توجيه الجهات الحكومية عند تسلمها الأحكام القضائية المذيلة بالصيغة التنفيذية الصادرة ضدها من المحاكم، باتخاذ الإجراءات الفورية لتنفيذها، والتنسيق مع وزارة المالية والجهات المعنية الأخرى عند الاقتضاء في هذا الشأن.
ولموافقتنا على ذلك .. نرغب إليكم إكمال اللازم بموجبه. وقد زوَّدنا جميع الوزارات والمصالح الحكومية بنسخة من أمرنا هذا للاعتماد).
ويتضح من نصوص الأمر السامي، أن الجهات الحكومية ملزمة باتخاذ الإجراءات الفورية لتنفيذ الأحكام القضائية النهائية الصادرة ضدها، وأنه لا يجوز لهذه الجهات أن تعطل تنفيذ هذه الأحكام بأي ذريعة من الذرائع، وأنه في حالة عدم توافر المبالغ المالية المحكوم بها لديها، أن تبادر فورا إلى التنسيق مع وزارة المالية لتوفير هذه المبالغ وتسليمها لأصحابها.
وعلى الرغم مما تقدم، فإن بعض الجهات الحكومية ما زالت تماطل أو تمتنع عن تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضدها، فقد نشرت جريدة ''المدينة'' في عددها الصادر يوم الخميس 25/3/1431هـ الموافق 11/3/2010 أن مصدرا مطلعا في ديوان المظالم أكد للجريدة، أنه تم رصد عدد من الجهات الحكومية المتهاونة في تنفيذ الأحكام القضائية التي يصدرها الديوان، مشيرا إلى وجود أسماء عدد من تلك الجهات الحكومية المعروفة والتي فضل عدم ذكرها، مؤكدا أن الديوان أصدر أحكاما قضائية تجاه تلك الجهات المختلفة، إلا أن بعضا منها تهاونت ورفضت الانصياع لتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة بحقها.
وأضاف أن الديوان يعد جهة وسلطة قضائية وليس من مهمته التدخل في تنفيذ وإلزام تلك الجهات للإخضاع والانصياع لما أصدره الديوان من أحكام قضائية، لكن كل جهة أو مسؤول محاسب أمام خادم الحرمين الشريفين فيما يتعلق بتنفيذ الأحكام القضائية).
كما نشرت جريدة ''الاقتصادية'' في عددها الصادر يوم الثلاثاء 21/2/1432هـ الموافق 25/01/2011م خبرا مفاده أن المحكمة الإدارية في ديوان المظالم في جدة وجهت خطابا إلى هيئة الرقابة والتحقيق تطالبها فيه بمساءلة وزارة الحج بشأن تعطيلها تنفيذ حكمين قضائيين صدرا من المحكمة ذاتها ورفضت الوزارة الامتثال لهما.
واعتبرت المحكمة في خطابها لهيئة الرقابة والتحقيق عدم تنفيذ وزارة الحج للأحكام النهائية الصادرة ضدها لشركة لبيك للتشغيل والتسويق، في الوقت الذي تستخدم فيه الوزارة عند تنفيذ الأحكام الصادرة لصالحها كل الوسائل النظامية التي تحت تصرفها، تعديا كبيرا على الدولة والنظام. ولفتت المحكمة إلى أن الامتناع أو التأخير عن تنفيذ الأحكام يعرّض الجهة الممتنعة للتعويض ويرهق الخزانة العامة للدولة، فضلا عن اعتباره تعديا يصل إلى حد المسؤولية الجنائية والتأديبية للموظف الممتنع عن التنفيذ؛ إذ يشكل رفضها تجاوزا للسلطة ومخالفة عظمى لقوة الأمر المقضي به لما ينطوي عليه من خروج سافر على الأنظمة.
إزاء كل ما تقدم، فإنني أجدد الدعوة للمشرع السعودي بأن يتدخل لحسم هذه المسألة بنصوص قانونية تجرم صراحة امتناع أي مسؤول حكومي مختص عن تنفيذ حكم قضائي صادر ضد إدارته، وتحدد الجزاءات الواجب تطبيقها على كل من يرتكب هذه الجريمة التي من شأنها تعطيل العدالة وجعل أحكام القضاء منعدمة الجدوى، وبالتالي إهدار حقوق الأفراد والإضرار بمصالح المجتمع العليا التي تتمثل في سيادة النظام والمشروعية.
ولعل من الوسائل الرادعة في هذا الشأن أن يتحمل الموظف المسؤول عن تأخير أو تعطيل الحكم القضائي الصادر ضد إدارته، التعويض المادي الذي يستحقه صاحب الشأن عما أصابه من أضرار نتيجة لهذا التأخير أو التعطيل. وقد يكون من المفيد في هذا الصدد أن أختتم هذا المقال بالإشارة إلى حكم أصدرته محكمة القضاء الإداري في مصر بتاريخ 29/6/1950، حيث قالت فيه إن إصرار الوزير على عدم تنفيذ حكمها (ينطوي على مخالفة للشيء المقضي به، وهي مخالفة قانونية لمبدأ أساسي وأصل من الأصول القانونية.. ومن ثم وجب اعتبار خطأ الوزير خطأ شخصيا يستوجب مسؤوليته عن التعويض المطالب به، ولا يؤثر في ذلك انتفاء الدوافع الشخصية لديه، أو قوله إنه يبغي من وراء ذلك تحقيق مصلحة عامة، ذلك أن تحقيق هذه المصلحة لا يصح أن يكون عن طريق ارتكاب أعمال غير مشروعة).

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي